ومنها ما ورد عن بريدة الأسلمي أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو وهو يقول: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ). فقال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى" (16).

وفي حديث أنس بن مالك أنه كان مع النّبي صلى الله عليه وسلم جالساً ورجل يصلي ثم دعا: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ. لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، الْمَنَّانُ، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ. يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ. يَا حَيُّ، يَا قَيُّومُ). فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى" (17).

وقد جاء رجل إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فقال له النّبي صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلاَةِ؟ ". قال: أَتَشَهَّدُ ثُمَّ أَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ)، أَمَا إِنِّي لاَ أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ، وَلاَ دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ! فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ" (18).

فهذه الأحاديث صريحة في جواز الدّعاء بغير الصيغ المأثورة. فلم ينكر النّبي صلى الله عليه وسلم على الصحابة والأعراب اجتهادهم في دعاء الله بما يفتح الله عليهم، ما داموا يدندنون حول نفس المعاني التي يدندن النّبي حولها.

- والوجه الثالث: أن كتب السيرة والتاريخ والتراجم أوردت شواهد وشوارد كثيرة من دعاء بعض الصحابة والتابعين والفقهاء وأهل الزهد وغيرهم، مما لا يدع مجالاً لإنكار جواز ذلك. وقد ذكرنا في هذا الكتاب عدداً كبيراً من هذه الأدعية (أكثر من 2500 دعاء)، فلتراجع.

وخلاصة الأمر، إذن، أن المسلم إذا دعا بدعاء ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم، من خَيْرَيِ الدنيا والآخرة، فإن هذا لا بأس به. ولسنا بهذا ننكر فضل الدّعاء المأثور عن النّبي صلى الله عليه وسلم، ولكننا نرى أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم (كان بذلك يعلّم أصحابه، وينشر في المجتمعات المؤمنةِ المثلَ الطيّبَ، والدعاءَ الطيّبَ، الذي يرجى من الله قبولُه. فلو دعا مؤمنٌ ربَّه بغير ما أثر عن النّبي صلى الله عليه وسلم -ولكن في حدود هدي أدبه-، فلا يكون آثماً، ولا خارجًا عن السنّة، سالكاً طريق البدعة. فليس في الإسلام شيء يُتعبَّد به لفظاً ومعنىً إلاّ القرآن الكريم) (19).

الهوامش:

1 - جزء من حديث صحيح للنبي صلى الله عليه وسلم، رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد: 1/ 287.

2 - سورة الأعراف: الآية 55

3 - رواه مسلم، كتاب الذكر، باب بيان أنه يستجاب للداعي مالم يستعجل: 8/ 87. [{يستحسر}: ينقطع عن الدعاء.

4 - سورة النمل: الآية 62

5 - سورة غافر: الآية 60

6 - شرح الأذكار لابن علان 1/ 17

7 - سورة الذاريات: الآية 56

8 - التحرير واالتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، شرح سورة الفاتحة: 1/ 180.

9 - انظر تفصيل ذلك في "رسالة في العبودية" لابن تيمية: 44.

10 - سورة الأنعام: الآية 162 - 163

11 - في ظلال القرآن، لسيد قطب. شرح الآية 36، 37 من سورة الحج: 5/ 197.

12 - رواه أبو نعيم في الحلية: 6/ 335، وابن عساكر، عن أبي هريرة، والطبراني في الأوسط: 1/ 38.

13 - رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة: 5/ 2331، ومسلم، كتاب الصلاة، باب استحباب الدعاء بعد الصلاة: 2/ 97.

14 - رواه أحمد: رقم: 12633، 3/ 158.

15 - رواه الإمام أحمد وابن ماجه، كتاب الأدب، باب فضل الحامدين: 2/ 1249.

16 - رواه الترمذي، أبواب الدعوات، باب جامع الدعوات عن النبي صلى الله عليه وسلم: 5/ 515 وأبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء: 1/ 554، وابن حبان، باب الأدعية: 3/ 173، والحاكم، كتاب الإيمان، باب التأمين: 1/ 400.

17 - رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء: 1/ 554، والترمذي، أبواب الدعوات، باب خلق الله مئة رحمة: 5/ 550، وانظر: الصحيح الجامع 1/ 329 والوابل الصيب من الكلم الطيب ص161.

18 - رواه أحمد: رقم: 15939: 3/ 474، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب في تخفيف الصلاة: 1/ 292، وابن ماجه، كتاب الصلاة، باب في التشهد والصلاة: 1/ 195. وقوله (دندنتك): أي مسألتك الخفية أو كلامك الخفي، و (الدندنة): كلام لا يُفهم، أي أن يتكلم الرجل بكلام تسمع نغمته ولا يُفهم.

19 - الدّعاء في القرآن الكريم، ص15. محمد الحبيب السلاّمي ورشيد الحبيب وغيرهما.

===

طور بواسطة نورين ميديا © 2015