المؤلفون  /  صلاح الخالدي

نبذة عن المؤلف

د صلاح عبد الفتاح الخالدي أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين / جامعة البلقاء التطبيقية أجرت مجلة الفرقان التي تصدرها جمعية المحافظة على القرآن الكريم بالأردن لقاء علمياً مع الدكتور صلاح الخالدي أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية أصول الدين / جامعة البلقاء التطبيقية وذلك في العدد الثالث والأربعين (رجب 1426هـ) وهذا هو نص اللقاء. حاوره: زهير ريالات الدكتور صلاح عبدالفتاح الخالدي.. اسم عرفه طلبة العلم ومحبو القرآن وتفسيره، وتابعوا بشغف دروسه ومحاضراته في المساجد، وفي جامعة البلقاء التطبيقية والجامعة الأردنية وكلية العلوم الإسلامية وجمعيات تحفيظ القرآن، وقرأوا كتبه التي وصل عددها إلى نيف وأربعين كتاباً. وقد قُدّرَ لي أن أتتلمذ على يديه، فرأيت عالماً عاملاً بكتاب الله، تالياً له، صافي المنهج في الولاء والبراء، موالياً لأولياء الله، معادياً لأعدائه، لا تأخذه في الله لومةُ لائم، قوَّالاً بالحق، أخَّاذاً من الكتاب والسنة، ذاق نعمة الحياة في ظلال القرآن، فسخر وقته وقلمه في تعريف الناس بها. وانطلاقاً من رسالة المجلة في تعريف قرائها بعلماء القرآن، الذين هم أعلام الهدى ومصابيح الدجى، كان لقاؤنا مع شيخنا أبي أسامة في بيته في منطقة صويلح بعمان، لنغترف شيئاً من بحر علمه، ونقتبس شعاعاً من نور كلامه، وكان هذا الحوار.. ** ** ** الفرقان: بداية -فضيلة الدكتور- نرجو منكم التكرم وإعطاءنا تعريفاً موجزاً بكم: نشأتكم، وحياتكم العلمية، ومسيرتكم مع كتاب الله عز وجل. د. صلاح: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد ولدت في مدينة جنين في (1/12/1947م) الموافق (18/محرم/1367هـ)، ودرست في جنين في المدارس الحكومية حتى الصف الثاني الإعدادي، ثم توجهت إلى الدراسة الشرعية، فانتقلت إلى نابلس للدراسة في المدرسة الإسلامية، ودرست فيها سنتين: الثالث الإعدادي والأول الثانوي، وهذه المدرسة كانت مرتبطة مع الأزهر، فكان الطلاب الأوائل يذهبون في بعثة للدراسة في الأزهر. وقد يسر الله لي الحصول على هذه البعثة. سافرت إلى القاهرة سنة 1965م، وهناك أخذت الثانوية الأزهرية، ثم دخلت كلية الشريعة وتخرجت فيها سنة 1970م، وعدت إلى الأردن لأن الضفة الغربية كانت قد احتلت سنة 1967م. ومن أبرز مشايخي في هذه المرحلة الشيخ موسى السيد رحمه الله -أحد علماء فلسطين-، وقد كان عالماً عاملاً ربانيّاً وخرج من العلماء الكثير. أما مصر فقد سافرت إليها في عز المحنة، وكان هناك حرب على العلماء وكثير منهم في السجون، ومنهم في تلك الفترة الشيخ محمد الغزالي وسيد سابق وعبدالحليم محمود، حيث كان لهؤلاء جهود دعوية في تلك الفترة خاصة الشيخ محمد الغزالي وكنا نحضر محاضراته في مختلف مناطق القاهرة. ثم سجلت لدراسة الماجستير سنة 1977م في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وكانت الرسالة التي قدمتها بعنوان: (سيد قطب والتصوير الفني في القرآن) وجاءت في قسمين: القسم الأول عن حياة سيد قطب، والثاني عن التصوير الفني في القرآن. وتمت المناقشة سنة 1980م، وتألفت اللجنة من الأستاذ الدكتور أحمد حسن فرحات مشرفاً والأستاذ محمد قطب مناقشاً والشيخ محمد الراوي -العالم المصري المعروف- مناقشاً. وكانت قاعة المناقشة ممتلئة بالحضور، وجاء عدد كبير منهم جاء ليسمع كلام الأستاذ محمد قطب، الذي أخجلني وهو يثني على الرسالة والجهد المبذول فيها، حتى إنه قال: لو تقدم الطالب بالقسم الأول من الرسالة فقط لاستحق الماجستير عن جدارة! وهذا من فضل الله عليِّ، وأسأله القبول سبحانه. ثم حصلت على درجة الدكتوراه في التفسير وعلوم القرآن سنة 1984م من الجامعة نفسها، وكانت الرسالة بعنوان: (في ظلال القرآن - دراسة وتقويم) وأشرف عليها أيضاً الأستاذ الدكتور أحمد حسن فرحات، وناقشني عالمان مشهوران هما الشيخ مناع القطان رحمه الله، والأستاذ الدكتور عدنان زرزور -العالم القرآني المعروف-. الفرقان: كم مرة قرأت (الظلال) خلال إعدادك لرسالتي الماجستير والدكتوراه؟ د. صلاح: خلال فترة الماجستير قرأته مرتين، وفي الدكتوراه خمس مرات، فمجموع قراءاتي للظلال من أجل الشهادة الأكاديمية سبع مرات، وكانت قراءة حرفية كاملة والحمد لله. أما العلماء الذين درَّسوني أو التقيت بهم في السعودية، فأذكر منهم الشيخ عبدالله الغديان -عضو هيئة كبار العلماء- الذي درّسنا علوم القرآن، ودرّسنا التفسير الدكتور مصطفى مسلم -وهو من العلماء السوريين المعروفين-، وغيرهم. وقابلت أيضاً عدداً من كبار العلماء منهم: السيد أحمد صقر، والأديب السعودي المعروف أحمد عبدالغفور العطار، وقابلت محمد قطب في مكة لإعداد المادة حول سيد وحياته. هذا بالنسبة لدراستي وطلبي للعلم، أما الوظائف التي عملت بها، فبعد تخرجي من الأزهر عينت بوظيفة واعظ بوزارة الأوقاف في الأردن، وكان تعييني في مدينة الطفيلة. وفي عام 1974م انتقلت إلى مدينة السلط حيث عملت مراقباً للتوجيه الإسلامي (مساعد مدير أوقاف). وفي سنة 1980م -وبعد حصولي على الماجستير- عُيِّنت في كلية العلوم الإسلامية في عمان، وبقيت فيها حتى عام 1991م، وكنت عميداً لها في آخر سنتين، بعدها أصبحت مدرساً في كلية أصول الدين / جامعة البلقاء التطبيقية، وما زلت أعمل فيها إلى الآن. وخلال هذه الفترة من عام 1981م - 1994م عملت خطيباً وإماماً في مسجد عبدالرحمن بن عوف في منطقة صويلح بعمان. الفرقان: عدد مؤلفاتك وأقربها إلى قلبك ؟ د. صلاح: أحمده سبحانه أن منَّ عليَّ بالكتابة والتأليف. عدد المطبوع من مؤلفاتي بلغ (44) كتاباً، أولها طبع سنة 1981م بعنوان (سيد قطب الشهيد الحي). أما أقربها إلى قلبي فكما يقولون: (كلهم أولادي)، لكن هناك سلسلة قرآنية سمَّيتها: (من كنوز القرآن) خرج منها عشر حلقات منها: مفاتيح للتعامل مع القرآن، في ظلال الإيمان، الشخصية اليهودية من خلال القرآن، لطائف قرآنية.. إلخ. الفرقان: إذا ذكر اسمكم -فضيلة الشيخ- فوراً نذكر الأستاذ سيد قطب. ما العلاقة التي تربطك به رحمه الله، وما هو أول كتاب قرأته له؟ د. صلاح: هي علاقة محبة وتلمذة، أما صلة شخصية فلم يكن بيني وبين الأستاذ سيد قطب صلة شخصية، لم ألتق معه لأني عندما سافرت إلى مصر، كان سفري في شهر (9) سنة 1965م، وكان سيد قد اعتقل في شهر (7) من السنة نفسها، وبعدها أعدم، فلم ألتق معه لقاء شخصيّاً إنما تتلمذت على كتبه، قرأتها كلها. لما سافرت للقاهرة كان قد وقع في محنة فزاد إعجابي بالرجل، فأقبلت على كتبه، رغم أنها كانت ممنوعة وغير متوفرة في المكتبات، لكن كنا نحصل عليها عن طريق بعض الزملاء والمعارف وبطرق خاصة. أما أول كتاب قرأته لسيد فله قصة.. كنت في المدرسة أحب القراءة والمطالعة، وكنت أتردد على مكتبة المدرسة، فاستهواني اسم كتاب بعنوان: (مشاهد القيامة في القرآن) ومؤلفه سيد قطب، قبل ذلك لم أكن قد سمعت عنه، فأعجبني اسمه (سيد) و (قطب)، وعنوان الكتاب أعجبني، فاستعرت الكتاب من المكتبة وأخذته إلى البيت وقرأته، وأعترف أنني لم أفهم معظم ما فيه إلا أنها كانت أول مرة أسمع فيها عن سيد وأقرأ له. الفرقان: استشهد سيد قطب أثناء إقامتكم في القاهرة. كيف كان شعوركم يوم بلغكم نبأ استشهاده رحمه الله؟ د. صلاح: حقيقة حزّ في نفوس الجميع استشهاد سيد، كان استشهاده في (29/8/1966م) فتألمنا جميعاً، وأذكر منظراً لا أنساه، فقبل استشهاده كنا في كافتيريا المدينة الجامعية في الأزهر، وفيها تلفاز، وكنا نجلس نستمع لنشرة أخبار الساعة الثامنة مساءً، وفي النشرة عرضوا صورة سيد قطب عندما خرج من السجن لتنفيذ حكم الإعدام عليه، فسلَّم على جميع الضباط والجنود الموجودين وصافحهم واحداً واحداً، ولما وقف على باب السجن، صافح الواقفين، وكانت سيارة السجن تنتظره، فركب السيارة والتفت للخلف وحياهم جميعاً، وابتسم ابتسامته الكبيرة التي انتشرت بعد ذلك في الصحف.. كان منظراً مؤثراًً، وهذا ردّ على من يقول: إن سيداً كان رجلاً مكتئباً وسوداويّاً.. بالعكس كان وجهه مشرقاً في الصورة، وكان يسلم على أعدائه الذين حاربوه وعذّبوه، ومع ذلك كان يسعهم بقلبه الكبير. وأذكر أنني في يوم استشهاده كنت في البيت ولم أخرج.. كان من الصعب أن يخفي أحدنا حزنه وألمه على ما جرى، لكن رجال البوليس المصري آنذاك كانوا يحاسبون الناس على عواطفهم، ففي اليوم التالي لاستشهاده، رأيناهم يعتقلون أي رجل ملتزم تبدو عليه مظاهر الحزن لما حدث! وهذه قمة السوء؛ أن تحارب الناس على عواطفهم. الفرقان: جهودكم الدعوية -سواء بالكلمة أو بالقلم أو بالقدوة الحسنة- متعددة، فطلبة العلم يرون ما تقومون به من محاضرات ودروس ودورات، ومصنفاتكم بلغت (44) كتاباً -كما ذكرتم- كيف تجدون الوقت الكافي لهذا؟ وهل لكم برنامج يومي محدد؟ وإذا كان كذلك حبذا لو أخبرتنا بتفاصيل هذا البرنامج. د. صلاح: أسأل الله القبول، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى، حقيقة الوقت يذهب بسرعة ولكن ينبغي على الإنسان أن يحسن استغلاله ويحسن تنظيمه، والبركة تأتي من الله تعالى، ذكرت في أحد كتبي -وهو (الخطة البراقة لذي النفس التواقة)- كيف ينظم المسلم وقته ويستفيد منه فائدة جيدة، حقيقة أنا عندي حرص والحمد لله على الوقت، وينبغي على أحدنا أن يستعين بالله سبحانه، ويحرص على أن لا يضيع شيئاً من وقته فيما لا فائدة فيه، يتقلل من الأمور الاجتماعية والمظاهر التي ليس لها داع مثل الزيارات غير المناسبة، وما يتبقى من الوقت يغتنمه بالاشتغال بالأعمال العلمية، ولابد للإنسان أن يجمع بين الكتابة والدعوة، بمعنى أن يخصص جزءاً من وقته للكتابة والتأليف، ويخصص جزءاً آخر لتعليم الناس وإرشادهم عن طريق الدورس والمحاضرات وغير ذلك، لأن المغالاة في الكتابة فقط وترك الناس بدون دعوة غير مناسب، وأيضاً الانشغال بالدروس فقط دون كتابة لمن عنده القدرة عليها أيضاً غير مناسب، فالحل هو الموازنة بين الكتابة والدعوة ليكون الإنسان رجل علم في جانب، ورجل دعوة في الجانب الآخر. أما بالنسبة لبرنامجي اليومي فأحب أن أقول -بداية-: إنه ثبت من خلال التجربة أن أفضل شيء استغلال وقت ما بعد الفجر، لأن بعض الناس يضيع هذا الوقت في النوم بسبب السهر إلى وقت متأخر من الليل، برنامجي يبدأ بعد الفجر مباشرة، أستيقظ على الأذان الأول، أصلي الفجر في المسجد والحمد لله، وعندي برنامج تفسير القرآن في المسجد -مسجد عبدالرحمن بن عوف- الحمد لله عندي كل يوم درس تفسير حوالي 7-8 دقائق، أتناول فيه تفسير آية بشكل مختصر، بدأت بهذا الدرس قبل (16) سنة بتفسير سورة الفاتحة، وأوشكت الآن على إكمال تفسير القرآن كله، حيث وصلت إلى سورة الغاشية، لم أتوقف عن هذا الدرس إلا إذا كنت مسافراً أو مريضاً، ولعل هذا أول مرة يحصل في الأردن أن يكمل تفسير القرآن كله في مسجد واحد، وهذا بفضل الله سبحانه، الشاهد أنه بعد الفجر لا أنام، واستغل هذا الوقت الثمين المبارك، وقت صفاء الذهن، وأنجز فيه أعمالاً جيدة، ثم استغل الفترة من الشروق حتى الظهر بالكتابة والتأليف، ثم أذهب إلى الجامعة وغالباً تكون محاضراتي بين الظهر والعصر، أما فترة ما بعد العصر فتكون للدروس العامة للناس، أما في الليل فأنا لست ليليّاً وأحرص على النوم مبكراً، حتى إني في ليالي الصيف أنام بعد العشاء مباشرة. الفرقان: صدر لكم كتابان في إعجاز القرآن: (البيان في إعجاز القرآن) و (إعجاز القرآن البياني ودلائل مصدره الرباني). ما الإضافة العلمية التي نجدها في الكتاب الثاني؟ د. صلاح: الكتاب الأول (البيان) كتاب أكاديمي أعد لطلاب كليات المجتمع بغرض التقدم للامتحان الشامل، وقد ألفته سنة 1989م عندما كنت مدرساً لمادة إعجاز القرآن في كلية العلوم الإسلامية، إذن فالكتاب أعد وفق مخطط خاص ولهدف معين. بعد ذلك عندما أصبحت مدرساً في كلية أصول الدين دعت الحاجة لتأليف كتاب بمستوى آخر ولهدف آخر، يليق بمستوى الدراسة الجامعية، وهو يختلف عن الكتاب الأول في المنهاج والخطة، الأول كان كتاباً تاريخيّاً إلى حد ما؛ تناولت فيه (الإعجاز القرآني ومسيرته التاريخية)، أما الكتاب الثاني فيركز على التحليلات القرآنية عن المباحث المختلفة، وهو يقوم على ثلاثة فصول: الفصل الأول مقدمات دراسة الإعجاز، الفصل الثاني -وهو صلب الكتاب- وسميته (الإعجاز البياني في القرآن)، تناولت فيه عشرين مبحثاً من الموضوعات القرآنية: الحذف والذكر، التقديم والتأخير، التعريف والتنكير، الترادف، الزيادة. الفصل الثالث يبحث في الأدلة على أن القرآن كلام الله تعالى (دلائل مصدره الرباني)، فالكتاب الثاني أشمل في الحقيقة وأكثر فائدة، وفيه تحليلات قرآنية أجود. الفرقان: من يقرأ الكتابين يلاحظ أنه في الكتاب الأول تكلمتَ عن القضايا العلمية والأخبار الغيبية الموجودة في القرآن وغيرها على أنها من وجوه الإعجاز، أما في الكتاب الثاني فقد اعتبرتها فقط دلائل على ربانية مصدر القرآن. لماذا؟ د. صلاح: في الكتاب الأول ذكرتُ أنها من وجوه الإعجاز، وبينت في المقدمة أن هذا من باب التنازل؛ لأن الكتاب هدفه أكاديمي -كما ذكرنا- وأني لا أرى ذلك، أما الكتاب الثاني فقد كتبته ليكون دراسة منهجية أشمل، ولذلك ذكرت فيه رأيي بدقة وبحرية؛ وهو أن هذه لا أعتبرها من وجوه الإعجاز وإنما هي أدلة على أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى. الفرقان: ذكرتم في كتابكم الأول (البيان) (ص 65) أن "التحدي بالإتيان بمثل القرآن مستمر، فحيثما يوجد كافر يطعن في مصدر القرآن، فيوجه له التحدي لمعارضته" أقول: لما كان العرب زمن النبي صلى الله عليه وسلم يمتلكون ناصية اللغة كان التحدي بالإتيان بمثله في الفصاحة والبلاغة، ولكن لمَّا ضعفت الملكة البيانية بعد ذلك، فهل يعقل أن يتحدى الناس جميعاً بالبيان وحده؟! لماذا لا نقول بتعدد وجوه التحدي بتعدد وجوه الإعجاز التي ذكرها بعض العلماء؟ د. صلاح: هذا يقودنا إلى وجوب الفصل بين المصطلحات ومعرفة ما هو المطلوب في موضوع الإعجاز والتحدي. نحن متفقون على أن الإعجاز قائم على التحدي، ولا إعجاز إلا بعد التحدي، أيضاً عندما تتحدى طرفاً آخر أنت تطلب منه الإتيان بشيء، إذن هي مراحل ثلاث مترابطة وخطوات ثلاث متدرجة: معاجزة -أولاً-، ثم عَجْز -ثانياً-، ثم إعجاز -ثالثاً-، المشكلة أن بعض من يتكلم في الإعجاز لا يحسن التفريق بين هذه الأمور، ولا يقف أمام قوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله) (البقرة: 23) (فأتوا) الأمر لمن؟ وما هو الهدف؟ وما المراد بالمثلية في الآية؟ في سورة هود يقول الله تعالى: (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) (هود: 13). و(مفتريات) معناها: مكذوبات. لماذا أتى بكلمة (مفتريات) صفة لعشر سور؟! هذا يقودنا إلى أن نذكر الخطوات الثلاث: أولاً المعاجزة.. المعاجزة تعني أن هناك معركة بين القرآن وخصومه، لما سمع الكفار القرآن قالوا: هذا ليس كلام الله بل هو من تأليف محمد r. كانت دعوى النبي أن القرآن كلام الله. لكنهم كذَّبوه في دعواه، ثم ارتقوا خطوة أعلى في التكذيب فقالوا: (لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين)، فزعموا القدرة على الإتيان بمثله، لما ادعوا القدرة على الإتيان بمثله ناسب أن يتحداهم الله فوراً فقال: (فأتوا بسورة من مثله). فالمعاجزة تعني أن القرآن أراد إعجاز المشركين وتعجيزهم، وهم أرادوا تعجيزه. نتيجة المعاجزة هي أن الكفار لم يستطيعوا الإتيان بمثله؛ فصاروا عاجزين أمام القرآن، والقرآن صار معجزاً. الآن عندما نقول لم لا نوسع موضوع التحدي ونتحدى العالم بالموضوعات الأخرى في القرآن؟! حقيقة هذا كلام خطير جدّاً. أنا أرى أن المثلية المطلوبة في قوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله) هي المثلية البيانية. من لا يعرف العربية لا أتحداه، ولكن أخاطبه بالأدلة الأخرى التي سميناها (دلائل مصدره الرباني). أقول له: أنا عندي في القرآن علم، لكن لا أقول له: هات علماً مثل القرآن.. العلم هذا سبق علوم الناس، وهذا دليل على أنه كلام الله، لكن لا أقول هات علماً مثله، أخشى لو قلت له ذلك أن يأتي بعلم مثله، وينجح في التحدي؛ وبالتالي يصبح عندي مشكلة كبيرة، فإذا هو أصر على موضوع التحدي -هذا الذي لا يتكلم العربية- أقول له: تعال أعطيك دورة لغة عربية. وعندما تتقن العربية كأي عربي أقول لك: (فأتوا بسورة من مثله) وعندها سوف يعجز. إذن لا إعجاز إلا بعد العجز، ولا عجز إلا بعد التحدي، وعندما تتحدى أنت تطلب شيئاً محدداً، ولكن الذين يتكلمون في الإعجاز العلمي والغيبي وغيره غير منتبهين لهذه النقطة. الفرقان: هل الخلاف حول هذا المصطلح (الإعجاز العلمي) يمنع من استخدام (الحقائق العلمية الموجودة في القرآن) في الدعوة ؟ د. صلاح: بل يجب، الخلاف فقط في تسميتها (إعجازاً)، عصرنا هذا عصر التكنولوجيا والعلم والاختراعات، يجب على كل من تكلم في القرآن أن يكون عنده ثقافة علمية واسعة في مختلف التخصصات، حتى عندما يتكلم في تفسير آية يجب أن يقدم للناس مضامينها العلمية المعاصرة، ويجب أن نخاطب الآخرين بعلومهم، فلابد من تأليف كتب عديدة في الحقائق العلمية في القرآن وتترجم للغات المختلفة. ونخاطب الغربيين ونقول لهم أنتم في القرن الحادي والعشرين اكتشفتم هذه المعلومات العلمية بعد تجربة قرون عديدة، وبعد معامل ومختبرات وتجارب، قرآننا ذكر هذا قبل (15) قرناً، وقد نزل على إنسان عربي أمي ليس عنده علم بهذه الأمور. فلو كان من تأليفه لما عرف ذلك، فدل هذا على أنه كلام الله، إذن عدم القول بالإعجاز العلمي لا يعني إلغاء الحقائق العلمية في القرآن. بل يجب تعلمها وتقديمها للناس باعتبارها أدلة على أن القرآن كلام الله. الفرقان: عرفكم طلابكم بأنكم من العلماء الموسوعيين، فرغم بروزكم في علم التفسير إلا أن علو كعبكم في صنوف العلم المختلفة أمر ظاهر، وهذا لا نجده عند كثير من العلماء، فلماذا أصبحنا -في هذه الأيام - لا نجد عالماً موسوعي الثقافة إلا ما ندر؟ أولاً سامحك الله، أنا لا أدّعي أنني موسوعي ولا غير موسوعي. لكن أقول حقيقة يجب على كل من يتعامل مع القرآن أن يتصف بالاطلاع والثقافة العلمية، يعني لابد أن يأخذ من كل حقل علمي بقبس، هو لن يكون متخصصاً في كل العلوم؛ فهذا يحتاج إلى وقت وجهد وملكة وغير ذلك، لكن الذي يتعامل مع القرآن ويقدمه للناس كتابة ودروساً.. إلخ ، لابد أن يكون عنده اطلاعات مختلفة، لأن القرآن -أخي الكريم- ميادينه مختلفة، موضوعاته مختلفة، القرآن ليس مجرد كتاب أدب أو فقه أو إعجاز.. القرآن كتاب موسوعي، وليس هناك حقل من حقول المعرفة إلا تكلم فيه القرآن، فحتى يحسن أحدنا فهم الآيات لابد أن يكون عنده ثقافة واطلاع على هذه الموضوعات، أما إذا اكتفى في تفسير القرآن بذكر ما قاله السابقون، ففي هذه الحالة لا يكون قد أتى بجديد؛ لأن ما قاله السابقون موجود في تفاسيرهم. أنا من دعاة توسيع مفهوم النص القرآني ومضمونه ليستوعب الثقافات المعاصرة، وتقديمه للمعاصرين حتى يزدادوا إعجاباً بكلام الله سبحانه، فلابد أن يكون عنده اطلاع في ذلك. وكما تفضلت نحن مصابون بمرض التخصص العلمي. وياللأسف بعض الأساتذة في الجامعات لا يجيد حتى تخصصه، هذه عبارة عن ضحالة علمية، فلا بد للعالم المسلم أن يكون عنده ثقافة موسعة؛ أن يتكلم في التاريخ وفي الفقه وفي اللغة وفي العقيدة وفي السياسة والاقتصاد والاجتماع وغير ذلك، أينما يتكلم يبدع ويجيد، لأن القرآن علمه هذا، أما من عنده ضحالة في الفكر فهؤلاء لا يستطيعون فهم كلام الله حقّاً. الفرقان: نظام التدريس في كليات الشريعة هل له أثر؟ كليات الشريعة وبرامجها وأنظمتها وخططها لها أثر مباشر من زاويتين: زاوية المنهاج نفسه (المادة ووحداتها الدراسية)، وزاوية المدرس نفسه. فالخطط الدراسية في كليات الشريعة بعد سلسلة التقليص والاختصار التي تقوم بها الجامعات أصبحت عبارة عن قشور بدون لباب، وخاصة الآن مع الضغوط الأمريكية لمراجعة المناهج وتنظيفها من (التطرف) و (الإرهاب) والجهاد وغيره، فالآن هذه الخطط الدراسية أصبحت ممسوخة! والله المستعان، وأصبح طالب العلم لا يستفيد منها شيئاً. الأمر الثاني الأساتذة في الجامعات -إلا من رحم الله- أصبحوا عبيداً لما يسمى وحدات المادة، المدرس حريص على أن لا يخرج من المنهاج بكلمة واحدة في القاعة، أما أن ينصح الطلاب والطالبات ويرشدهم ويتكلم معهم عن أحداث الساعة فنراه يخشى رهباً ورغباً أن يتكلم في هذه الموضوعات، وأن يوسع آفاق الطلاب؛ فيخرج الطالب ليس عنده شيء. الفرقان: ما هي كتب التفسير التي تنصح بقراءتها ؟ د. صلاح: التفاسير كثيرة ولكن هناك شيء اسمه أمهات كتب التفسير، أن أنصح بالبدء بقراءة الأمهات. وأول هذه التفاسير تفسير (في ظلال القرآن) لسيد قطب، هذا الكتاب لا أعتقد أن مسلماً معاصراً يستغني عنه.. سيد رحمه الله ربط الناس بالقرآن، وقدم للناس روح القرآن، فلن تفهم طبيعة القرآن حتى تقرأ الظلال. الفرقان: ما الميزة التي يتميز بها الظلال عن باقي كتب التفسير؟ سيد قطب كان عنده مبدأ: ما قاله الناس لا يعيد قوله، إنما كان يضيف إلى ما قاله الناس. فسيد في (تفسيره) لم يقف أمام تحليلات القرآن البيانية واللغوية وغيرها فهذا موجود في التفاسير السابقة، إنما أضاف معاني جديدة غير موجودة في التفاسير السابقة، فلهذا (الظلال) لا يغني عن غيره ولا يغني عنه غيره، (الظلال) هدفه بيان روح القرآن، كيفية الحياة مع القرآن، كيف يدخل المؤمن عالم القرآن، ويخرج منه صاحب رسالة، يحمل رسالة القرآن ويواجه أعداء الله، هذه المعاني ركز سيد عليها، سيد علمنا كيف نواجه الحرب التي شنها الأعداء على القرآن. السابقون لم يتكلموا فيها لأنهم كانوا يكتبون لأناس كانوا يعيشون مع القرآن، فكانوا يقدمون للناس ثقافة تفسيرية. سيد لم يقدم ثقافة تفسيرية، سيد قدم للناس منهجاً تربويّاً حركيّاً مع القرآن، سيد أراد تخريج الشخصية الإسلامية القرآنية، عندما تقرأ (الظلال) تصاغ صياغة قرآنية من جديد؛ فتخرج من الظلال وأنت جاهز لكي تستوعب العلم القرآني بشكل دقيق. بعدها اذهب إلى باقي كتب التفسير، وابدأ من جديد ادرس دراسة ثقافية تفسيرية؛ فعندها تجمع ما بين التربية والحركة في (الظلال)، والعلم التفسيري في التفاسير الأخرى. ويعجبني كلام الدكتور أحمد حسن فرحات عندما كان يقول: (الظلال) كتب الله له القبول لأنه كتب مرتين: مرة بمداد العالم، ومرة بدم الشهيد. فكان العلم نوراً، والشهادة نوراً، و(الظلال) نور على نور. نقول بعد (الظلال) لابد من قراءة تفسير ابن كثير؛ فتفسيره كان مرجعاً أساسيّاً لسيد وهو يكتب (الظلال)، كان معه في الزنزانة أثناء كتابته له، فالنقص المأثوري في (الظلال) يستدرك من تفسير ابن كثير، فهما مكملان لبعضهما. وأنصح غير المتخصصين بقراءة أحد مختصرات ابن كثير حتى لا يضيع نفسه مع الروايات المتعدد والأسانيد المختلفة الموجودة في (ابن كثير). بعد ابن كثير هناك من الأمهات تفسير الطبري، وهو مؤسس علم التفسير، وبعده أنصح بقراءة تفسير بياني وليكن الكشاف للزمخشري على صعوبته. أما التفسير الكلامي العقلي (أو ما يسمى بالتفسير بالرأي المحمود) فلا أجد خيراً من تفسير الرازي (مفاتيح الغيب). وأيضاً أنصح بتفسير الإمام القرطبي (الجامع لأحكام القرآن). ولابد أن يدرك القارئ إعراب القرآن؛ فننصحه بقراءة كتاب (الجدول في إعراب القرآن) لمحمود صافي رحمه الله. فمن قرأ هذه الكتب يصبح عنده ملكة تفسيرية، ثم فيما بعد يزود مكتبته بالتفاسير الأخرى. الفرقان: هل تنوون إكمال مشروعكم المبارك الذي يهدف إلى تهذيب كتب التفسير وتنقيحها وترتيبها؟ د. صلاح: الحمد لله، أخرجت تهذيب تفسير الطبري في سبع مجلدات، وأنجزت تهذيب تفسير ابن كثير وصُفَّ كاملاً قبل خمس سنوات، لكن حتى الآن لم تتيسر طباعته لأسباب مادية، ويقع في حوالي (3500) صفحة، والأحاديث مخرجة، وقد اشتمل على (3000) حديث مرفوع صحيح، والآن ننتظر من يموله من أهل الخير حتى ينشر إن شاء الله. وكنت أنوي تهذيب تفسير الرازي، وشرح وتوضيح (الكشاف) للزمخشري وقطعت فيه مرحلة، لكني عدلت عن هذا المشروع، لأن التهذيب يأخذ من الإنسان جهداً مضاعفاً، عندما يهذب تفسيراً يمكن أن ينتج مكانه عدة دراسات في نفس الفترة الزمنية، ولذلك عدلت عن التهذيب إلى دراسات أخرى. الفرقان: ما هي مشروعاتكم العلمية في الوقت الحاضر، وهل هناك جديد -كما عودتمونا دائماً -؟ أنا هذه الأيام أقوم بعمل جبهة مع أعداء القرآن، وأنوي إخراج كتابين ضمن سلسلة بعنوان (الانتصار للقرآن). الكتاب الأول رددت فيه على القسيس الأمريكي اليهودي (أنيس شروش) الذي ألف كتاباً سماه (الفرقان الحق)، فأنجزت كتاباً في الرد عليه سميته ( تهافت فرقان متنبئ الأمريكان أمام حقائق القرآن). ويقع في (650) صفحة. و سيكون في السوق في أقرب وقت إن شاء الله، كنت أسجل العبارة التي ذكرها (شروش) وأنقضها وأبين من أي موضع من القرآن أخذها، فمشيت معه خطوة خطوة. أيضاً هناك كتاب أخر لقسيس مصري اسمه عبدالله الفادي وكتابه بعنوان (هل القرآن معصوم ؟!) يدعى فيه عدم عصمة القرآن، وأنه بحث في القرآن بموضوعية وحياد فوجد (250) خطأ، ما بين خطأ لغوي وفكري واجتماعي وسياسي وعقيدي وعلمي وغير ذلك، فأنا الآن متفرغ للرد على هذا الكتاب وسأسمّيه (بيان خطأ من خَطَّأَ القرآن).وسيكون في الحلقة الثانية من هذه السلسلة. الفرقان: هل من نصيحة توجهونها لطلبة العلم الشرعي وخاصة طلبة التفسير وعلوم القرآن؟ د. صلاح: نصيحة نقولها لطلبة العلم أنه لابد أن يعيشوا مع القرآن، وأن يحسنوا فهم القرآن، وأن يكونوا نموذجاً عمليّاً لكتاب الله، نريد أن يحملوا مهمة القرآن، أن يكونوا أصحاب مهمة ورسالة قرآنية، وأن يواجهوا أعداء القرآن. نقول لهم: أنتم تعرفون أن القرآن تشنّ عليه حرب مختلفة الجوانب، ولابد أن ترفعوا أنتم لواء القرآن، هذا يتطلب من الشباب أصحاب العلم أن يهتموا بالدراسة والتحصيل، وأن لا يضيعوا أوقاتهم أبداً، ويستثمروا كل ساعة من أوقاتهم حتى يُكَوِّنوا ثقافة موسوعية يستطيعون بها تقديم القرآن للناس، ثم نقول لهم عيشوا مع القرآن وموتوا معه حتى يكرمكم الله بفضل كلامه سبحانه وتعالى. الفرقان: لا يسعنا في نهاية هذا اللقاء إلا أن نتوجه بالشكر الجزيل لفضيلتكم على هذه الكنوز التي أتحفتنا بها، ونسأله سبحانه أن يجزيكم خير الجزاء، وأن ينفع بعلمكم إنه سميع مجيب.

مؤلفاته

طور بواسطة نورين ميديا © 2015