النميمة من أسباب عذاب القبر

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

أيها الإخوة في الله! حياكم الله في روضة من رياض الجنة، وفي حلقة من حلقات العلم والإيمان، التي تزكو بها الأرواح وتعلو بها الأنفس، ويشرف بها الإنسان حينما يقف بين يدي الله عز وجل، فيحاسب على كل دقيقٍ وجليلٍ من عمله في هذه الدار فيرى في صحائف عمله وفي سجلات سلوكه هذا الساعات التي اغتنمها من حياته وأمضاها في رياض الجنة وفي حلق الذكر، فإنه لا يبقى للإنسان بعد موته إلا ما كان لله عز وجل، أما ما كان من حظ النفس أو من حظوظ الدنيا فإنه يذهب ويفنى بفناء النفس والدنيا، وما أريد به وجه الله فهو الباقي في الدنيا وفي الآخرة -نسأل الله وإياكم من فضل الله عز وجل-.

كان الكلام في الماضي عن عذاب القبر، وعن نعيمه -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل النعيم- ولكن قد يبدو أو يبدر سؤال عن الأسباب التي توجب عذاب القبر؟ وعن الأسباب التي تنجي من عذاب القبر؟ وقد بوب العلماء في كتبهم وفي مصنفاتهم أبواباً لهذه المسألة، وخصوها بكثير الاهتمام؛ لأنها تضع المسلم على الأمور التي ينبغي له أن يهتم في اجتنابها حتى لا يقع في الأسباب الموجبة لعذاب القبر؛ ولأن منهج الإسلام في تربية أتباعه وأبنائه أن يضعهم دائماً على النقاط وعلى الحروف، ويضع أيديهم على المواطن التي يلمسونها ويعلمون بها، لا يتركهم في متاهات، ولا يضعهم في مجاهيل، وإنما يوضح لهم الأمور ويبين لهم الحقائق حتى يستطيعوا أن يعملوا على مستوياتهم المتباينة في الفهم والإدراك، لكن كل مسلم لابد أن يخرج بخيرٍ من هذا المعين العظيم الذي هو معين النبوة وهدي الرسالة صلوات الله وسلامه على صاحبها.

الأسباب التي توجب العذاب في القبر على قسمين: قسمٌ مجمل، وقسم مفصل وموضح ومبين.

فأما المجمل فإن الناس يعذبون في قبورهم بأسباب جهلهم بالله، وبدينه وبنبيه صلى الله عليه وسلم وبأسباب إضاعتهم لأوامر الله، وارتكابهم لمعاصيه، هذه بالإجمال تسبب لصاحبها العذاب في القبر، كلما كان الإنسان جاهلاً بهذا الدين وجاهلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالله عز وجل، وأيضاً ارتكب ما نهى الله عنه وضيع ما فرض الله وأمره به كان مستوجباً لعذاب القبر.

وهناك أسباب مفصلة -يعني: معينة- ومبينة وموضحة من يقع فيها يناله عذاب القبر إلا أن يشاء الله، وقد وردت بها النصوص الصحيحة الصريحة من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي سبعة أشياء.

الأول من الأسباب: النميمة: وهي نقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، بنية إفساد ذات البين، والثاني: الاستنزاه من البول، هذان السببان موجبان لعذاب القبر، فقد ورد في الصحيحين في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير) يعني: سبب عذابهم ليس بسبب كبير في نظرهم، وإلا فهو عند الله كبير وعظيم، ولهذا جاء في بعض روايات الحديث: (أما إنه كبير) يعني: عند الله، لكن ليس كبير، في أنظار الناس، يعني: الناس الآن يستعظمون الزنا، ويستعظمون الربا، ويستعظمون قتل النفس ويستعظمون الخمور، لكن هذه معاصي كبيرة ويتساهلون في هذه البسيطة وهي سبب عظيم من أسباب العذاب في القبر (وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة -كان يسعى بالنميمة- وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله، فأخذ عوداً رطباً فشقه -جريدة من نخل شقها نصفين- وغرز على كل قبر واحدةٍ منهما ثم قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا) الحديث من رواية طاوس اليماني رحمه الله، فقيه اليمن، وعالمها اليمن، تابعي جليل سمع من زيد بن ثابت ومن ابن عباس ومن عائشة ومن أبي هريرة رضي الله عنه ولازمهم ملازمة كبيرة، وكان من سادات التابعين وكبرائهم، ومن عباد اليمن، كان من العباد الكبار، وحج أربعين حجة، لكن يجب أن نسأل على ماذا حج أربعين حجة على طائرة أو على سيارة على حماره؟ حج أربعين حجة وكان يقول: ما من كلمة يتكلم بها ابن آدم إلا أحصيت عليه.

حتى أنه في مرضه إذا كان مريضاً يقول وهو يئن: آه آه هذا الأنين مسجل ومحسوب؛ لأنك تظهر التبرم والسخط وعدم الرضا؛ لأن مقتضى الصبر أن تصبر، ولذا كان السلف لا يئنون من أمراضهم مهما تعبوا فإنهم يصبرون، ولا يتضجرون من قضاء الله عز وجل، وطاوس اليماني مشهور بـ طاوس بن كيسان كان كثير الصمت، فما من كلمة يتكلم بها إلا وهي مسجلة عليه، وأكثر ما يجر الناس إلى النار هو اللسان؛ لأن الكلام لا يزال في ملكك حتى يخرج من فمك، فتكون أنت ملكاً له إما بالخير أو بالشر، إما بالسلب أو بالإيجاب.

لما حج سليمان بن عبد الملك، ووصل إلى مكة قال: هل بقي أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: لا.

قال: هل بقي أحدٌ من التابعين الذين أدركوا بعض الصحابة؟ قالوا: نعم.

بقي طاوس، فأرسل إليه فجاءه، فلما سلم، سلم عليه ولم يقل له: يا أمير المؤمنين! وجلس على بساطه بنعليه، وبعد ذلك قال له: ما هذا الجفاء يا طاوس؟ قال: دخلت ولم تكنيني بإمرة المسلمين، ووضعت نعليك على طرف بساطي، ودعوتني باسمي؛ لأنه قال: السلام عليك يا سليمان! قال: أما أني دعوتك باسمك فإن الله عز وجل خاطب أنبياءه بأسمائهم، قال: يا نوح ويا لوط ويا إبراهيم ويا موسى، يقول: فأنا لم أخطئ فدعوتك باسمك الذي سمتك أمك وأبوك به، قال: وأما أني لم أسمك بإمرة المؤمنين، فإني لا أدري أكل المؤمنين راضين عن إمارتك أو لا؟ فخشيت أن أكذب، أقول: أمير المؤمنين وهم لا يريدونك أميراً لهم، وكان رجلاً حساساً عند الكلام.

قال: وأما عدم خلعي لنعلي على بساطك، فإني أصلي بين يدي ربي بنعلي خمس صلوات ولا يغضب علي.

قال له: يا طاوس ما لنا نحب الدنيا ونكره الآخرة؟ قال: لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم، والإنسان بطبعه لا يحب الانتقال من دار العمران إلى دار الخراب، إذا عندك كوخ مهدم وعندك فلة مبنية تريد أن تنتقل من الفلة إلى الكوخ تجلس فيه؟ لا.

فالإنسان يكره الآخرة إذا كان ليس عنده فيها عمل ولا دار، أما السلف الأوُل فكانوا يحبون الآخرة ويكرهون الدنيا؛ لأنهم دمروا الدنيا وعمروا الآخرة.

قال: كيف القدوم على الله يا طاوس؟ قال: أما المؤمن فكالغائب يعود إلى أهله، وأما الفاجر فكالعبد الآبق يقبض عليه مولاه وسيده، والقدوم على الله على حالتين: إما غائب عن أهله مسافر سنين طوال ثم جاء إليهم بعد سنتين أو ثلاث أو أربع سنوات كيف ظنكم بتلك الليلة؟ لاشك أنها ليلة عيد عندهم، إذا كان بعد غيبة طويلة وأيضاً جاء ومعه أموال كثيرة ومصاريف وهدايا، ويقسم الهدايا على الناس، كل القرية والمدينة تفرح وتسعد بمجيء هذا، أبوه يفرح به وأمه وزوجته وأولاده وأقاربه يسعدون به، فهو في ليلة من الأنس والسعادة مع أهله.

وأما الفاجر فكالعبد الآبق يعني: الهارب من سيده يقبض عليه مولاه، يعني: عبد مملوك شرد من سيده وبعد فترة وجده فأمسك به، أين يمسيه تلك الليلة؟ يمسيه في الإصطبل، وهو مكان إنزال وإسكان الحيوانات كان في البيوت في الماضي نضع فيها الحمير والبقر، وإذا أخطأ أحد العبيد المماليك جعلوه يبيت في هذا المكان حتى بعض الآباء إذا أراد أن يربي ولده يربطه مع الحمار؛ لأنه لم يكن هناك فنادق ولا قهوة يذهب ينام فيها، ليس هناك إلا بيت أبيه فهذا قادم على الله وهو آبق فاجر يقبض عليه الله عز وجل فلا يمسيه إلا في النار.

لا حول ولا قوة إلا بالله! يقول طاوس اليماني: عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ وابن عباس هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبر الأمة وترجمان القرآن وقمطر العلم، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره ثلاث عشرة سنة، أدرك من العلم ما لا يدركه كبار الصحابة، كان فقيهاً ببركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فقد دعا له وقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) فكان يعرف من أسرار القرآن ما لا يعرفه غيره، وكان يقول: [أنا من القليل الذين يعرفون عدد أصحاب الكهف] قال تعالى: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] ، من علم الله الذي أعطاه.

يحدث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبرين) والمرور على المقابر سنة، ينبغي للمسلم أن يمر باستمرار على المقابر وأن يدعو وأن يسلم، فإن السلام والدعاء ينفع والاعتبار يحصل، لكن إذا لم تمر على المقابر فإن قلبك سيقسو؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهى في أول الأمر عن زيارة المقابر ثم أمر بزيارتها قال: (إني كنت قد نهيتكم عن زيارة المقابر ألا فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة) ولا يحصل للإنسان الاتعاظ القوي إلا إذا وقف على المقابر هكذا ونظر في ظهور القبور وتأمل بجزءٍ من التفكير العميق في بواطنها وكيف كان أصحاب هذه القبور يعيشون بين الناس؟ كانوا أقوياء وأثرياء وأغنياء، وعظماء وعلماء وكانوا حكماء وشجعان، ثم بعد ذلك كيف دسوا في التراب، وكيف وضعوا تحت اللحود، وكيف أن الزمان سيدور دورته وأن السرة سوف تصل إلي وسوف أسكن أنا فيها.

أيها الناظر إلى القبر! في تلك الحفرة المظلمة سوف توسد ويغطى وجهك بالتراب وتحت ظهرك ورأسك تراب، وفوق رأسك صلايا ولحود، وبعد ذلك ليس معك هناك أحد، هذه تأملات تزرع في الإنسان القوة في العمل، فيعود من القبر معتبراً، ولذا كان ميمون بن مهران رحمه الله من السلف قد حفر في بيته قبراً، فإذ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015