الصورة الرابعة: استحلال ما حرم الله

إن أهل البدعة والضلالة ينظرون إلى من تمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقد أن فيها النجاة، وألا عصمة إلا بها، ينظرون إلى أن هؤلاء متشددون متنطعون، فإن تكلمت عن السواك قالوا: أنت متشدد متنطع، وستفرق الأمة بكلامك، فاتق الله ولا تتكلم في هذه المسائل، فمن نادى بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله وأن الرجال لا يعرفون إلا بالعلم، يرمى بأنه ممن يفرق شمل الأمة.

إن كثيراً ممن يتحايلون على شرع الله ويستحلون ما حرم الله إذا قيل لهم: إن ما وقعتم فيه مخالفة لشرع الله، قالوا: هذا جهل بفقه الواقع، بل إن بعضهم يقول: إن الأمة ما انحدرت وما تراجعت إلا لأنها رزقت بمثل هؤلاء، يقصدون ابن باز وابن عثيمين والألباني الذين هم عظام الأمة وأماجدها وأكارمها، وتجرأ بعضهم فقال: ابن باز عقله مظلم، وابن عثيمين كذلك، بل قالوا عنهم: صب الجاز على ابن باز وابن عثيمين وكذلك قالوا عن الألباني، بل هو أشد وأنكى، وهكذا فإن أهل البدعة والضلالة لا يرضون بأهل السنة والجماعة، بل يرمونهم بالتشدد والتنطع وتفريق شمل الأمة.

وأيضاً استحلوا محارم الله بقلب الأسماء عن مسمياتها، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم سوف يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها؛ حتى لا يظهر للناس فحش حرمتها، فلا يقولون: هي خمر، بل يقولون: هي بيرة، وليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله أن البيرة حرام، لذا فقد بينت لنا السنة أن الأسماء ستغير قبل يوم القيامة، والمقصد من ذلك استحلال ما حرم الله بأدنى الحيل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الطبراني بسند صحيح: (يأتي زمان على أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها)، فيسمونها كونياك، بيرة، مشروبات روحية، أو غير ذلك.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم، يمسي العبد فيها مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).

قال الحسن:- والله لقد رأيناهم أشباحاً بلا أرواح، وجسوماً بلا عقول، يغدو المرء بدرهمين ويروح بدرهمين، يبيع دينه بثمن بخس دراهم معدودة.

وقد ورد مرفوعاً وموقوفاً عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (يأتي زمان على الأمة يستحلون خمساً بخمس يستحلون الربا باسم البيع)، والله جل وعلا يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث مستقل بإسناد فيه كلام أنه قال: (يأتي زمان على أمتي يستحلون الربا باسم البيع، ويستحلون الزنا باسم النكاح، ويستحلون الخمر يسمونها بغير اسمها، ويستحلون الرشوة بالهدية، ويستحلون القتل بالرهبة).

فكثير من الناس اليوم يتعاملون بالتورق، ومسألة التورق فيها خلاف معتبر ولا إنكار في مسائل الخلاف المعتبر ولا ذم، لكن هذه المسألة مثال على هذا الحديث عند من يقول: إن التورق ربا.

فالجمهور يرون جواز التورق، وفي رواية عن أحمد وهي ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: أن التورق محرم؛ لأنه تحايل على الربا.

والتورق: أن يشتري سلعة كسيارة تقسيطاً بمائة ألف ويبيعها نقداً بثمانين، إذاً فقد أخذ السيارة تقسيطاً بمبلغ عالٍ ثم باعها نقداً بمبلغ أقل؛ لأنه لا يريد التجارة وإنما يريد سيولة المال.

والشاهد في المسألة أنها مثال على قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يستحلون الربا باسم البيع)، عند ابن تيمية وابن القيم الذين يريان أن هذا البيع محرم، لأن المقصود فيه المال، وكأنه أخذ الثمانين وسيردها مائة.

فهي صورة لقرض جر نفعاً، وكل قرض جر نفعاً فهو ربا، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما صورت له هذه الصورة: ما أراه إلا الربا، وقعد لنا ابن عباس قاعدة قصمت ظهور من خالفه فقال: دراهم بدراهم بينهما حريرة.

يعني: أن الرجل لا يقصد إلا الدراهم بالدراهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الذهب بالذهب مثلاً بمثل، ويداً بيد، والفضة بالفضة مثلاً بمثل، ويداً بيد وإلا كانت ربا)، ثم قال: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم)، فإذا اختلفت الأصناف أي: إذا بيع الذهب بالفضة فبيعوا كيف شئتم بالتفاضل لكن بدون نسيئة بل يداً بيد، فهذا الشرط هو شرط التقابض في المجلس.

فإذا أخذ ثمانين وأعطى مائة من أجل الأجل كان ذلك قرضاً جر نفعاً فهو ربا.

فالذين يقولون بأن هذه الصورة محرمة يدخلونها تحت الحديث: (يستحلون الربا باسم البيع)، وكما قال أهل الجاهلية: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة:275].

قال في الثانية: (ويستحلون الزنا باسم النكاح) , وذلك نكاح المتعة فإن اسمه نكاح لكنه زنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرمه قالوا: (يا رسول الله حرام؟ قال: إلى أبد الأبد)، أو قال: (إلى أبد الآبدين هو محرم)، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرم نكاح المتعة إلى الأبد.

إذاً: فمن قال بحلية نكاح المتعة فقد وقع في الزنا، ودخل تحت قول ابن عباس: (يستحلون الزنا باسم النكاح).

وأما الزواج العرفي فهو صحيح؛ لتوفر شروط النكاح فيه.

قال: (ويستحلون الرشوة بالهدية)، وذلك أن الهدية أصل مشروع من أصول الدِّين، وقد ورد في بعض الأحاديث -وإن كان فيها ضعف-: (تهادوا تحابوا)، (وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها)، لكنهم الآن يعملون ما ظاهره الصحة وباطنه الحرمة، فيستحلون الرشوة باسم الهدية، فإذا أنجز لك أحدهم معاملة قال: أين هديتي أو قهوتي أو كراميتي؟ فسموا الرشوة بغير اسمها، ولكن الله جل وعلا ينظر إلى المعاني، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، وقال: (إنما الأعمال بالنيات).

وقال: (ويستحلون القتل بالرهبة)، إذاً فالواقع الذي نعيشه هو الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، فيستحلون خمساً بخمس، أي: يقلبون الأسماء دون مسمياتها.

ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم نصح هذه الأمة نصيحة عظيمة فقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)، وقال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي، كتاب الله وسنتي)، وقال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً، فطوبى للغرباء).

ووردت رواية أخرى بزيادة في إسنادها ضعف لكن الشواهد تقويها: (فقالوا: من الغرباء يا رسول الله؟! قال: أناس صالحون قليل هم -أو قليل ما هم- يصلحون ما أفسد الناس).

فلا تكن إمعة، ولا تسمع للأصوات العالية، ولا تغتر بالكثرة؛ فإن الله جل في علاه قال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].

ولا تعرف الحق بالرجال وإن كانوا أسماء لامعة؛ لأن الله جل في علاه لم يربط الحق بالرجال بل ربط الحق بمعرفة الكتاب والسنة، كما قال علي بن أبي طالب: اعرف الحق تعرف أهله.

العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه فهذه هي نبوءات النبي صلى الله عليه وسلم: (بين يدي الساعة سنون خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن الخائن ويخون الأمين، وينطق الرويبض)، وقال: (يأتي زمان على أمتي يشربون الخمر، يسمونها بغير اسمها) وقال: (يأتي زمان على أمتي يستحلون الربا باسم البيع).

فعلى الإنسان أن يتقي الله ربه، ويعلم أن طمس الحقائق بقلب أسمائها من سمات وصفات الجاهلية.

كما عليه أن يتمسك بكتاب الله وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يستنير بضوء العلماء، ولا يكن كالرعاع الهمج الذين لا يستضيئون بنور العلم، وهم أتباع لكل ناعق.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015