تستنكر أيها الفيلسوف ما يبدو لك من سخافة هذا التفسير - هذا الثوب الرمزي الذي يقدمه الدين إنارة لأذهان البسطاء وشفاء لغليلهم. ولا تمقت ما يطهر لك من فاحش زخرفته وزبرجه وظاهر باطله ومحاله وغلوائه وإغراقه لأنك مع ما قد أوتيته من فضل وعرفان وعلم واسع لا تستطيع أن تتصور ما يلزم اتخاذه من لمناهج الملتوية والمسالك المتعرجة الملتفة لإيصال الحقيقة إلى أذهان البسطاء السذج. فالأديان المختلفة إنما هي قوالب مختلفة تفرغ فيها الحقيقة ليستطيع الناس إدراكها إذا كانوا يعجزون البتة عن فهمها وهي عارية مجردة - وكان من المستحيل عليهم تصور هذه الحقيقة منعزلة عن الثوب الرمزي. فلا تغضب أيها الصديق إذا قلت لك أن ازدراءك وهزءك بهذه الثواب الرمزية - بهذه الأشكال والصور والقوالب - دليل السخف والظلم.

الفيلسوف: أوليس من السخف والظلم أيضاً أن يطلب الفقهاء بمحو كل فلسفة غير تلك الفلسفة التي تقول أنت من مؤسسي الأديان صاغوها لمعالجة حاجات الجماعات وشفاء غليلهم من حيث المعاملات المادية والأماني الروحانية وجعلوها طبق أذهانهم الضيقة ووفاق أفهامهم السقيمة؟ أيصح أن تجعل تعاليم الدين أقصى حد لطموحات الذهن البشري ومقياساً لكل تأمل وتفكير بحيث تصبح فلسفة الفئة القليلة المتنورة (باعترافك أنت) وجل همها وغايتها مطابقة وتأييد فلسفة العوام وشرحها وتفسيرها؟

وهل يصح أن يصبح التساهل والتسامح دعوة صادرة عن الدين الذي هو مثال التشدد والقسوة؟ وهل تراني في حاجة إلى تذكيرك بمحاكم الزندقة والإلحاد ومحاكم التفتيش والحروب الدينية والصليبية ومصارع سقراط وبرونو وفانيني بالسم والنار. أي عقبة هي أكأد في سبيل الفلسفة الصائبة الحكيمة والبحث الصادق عن مكامن الحقيقة الذي هو أسمى وظيفة لأسمى العقول البشرية من هذا النظام الفلسفي التوطئي (أعني التعاليم الدينية) المؤيد من جانب الحكومات التي يبالغ في غرس مبادئه في كل رأس منذ أوائل الطفولة بكل جد وهمة وتحمس غرساً شديداً عميقاً تصبح معه تلك المبادئ مستحيلة الإزالة إلا من الأذهان التي أوتيت من المرونة درجة خارقة للمعتاد؟ ألا أن نتيجة هذا هو إفساد قاعدة التفكير الحر وأساس التعقل الصحيح إفساداً تاماً أبدياً لا يرتجى إصلاحه حتى ترى مقدرته الضعيفة على حرية التفكير وإصدار الأحكام العادلة فيما يختص بكافة الشؤون والأحوال

طور بواسطة نورين ميديا © 2015