مجله البيان (صفحة 84)

التجديد في الإسلام (5) الإمام أحمد بن حنبل

التجديد في الإسلام

(?)

الإمام أحمد بن حنبل

(ناصر السنة)

كان آخر القرن الثاني وأول القرن الثالث من فترات الاضطراب الفكري،

التي تركت آثاراً ضخمة في الحياة الإسلامية.

فقد كان لنشوء البدع - المتقدم على هذه المرحلة - ثم ترجمة الكتب الفلسفية

واشتغال المسلمين بها وحث الخلفاء الناس على تعريبها، حيث وجد أهل البدع فيها

سنداً لهم، فأصّلوا مذاهبهم على ضوئها، وتوسعوا بشكل سافر في إدخال النظريات

الفلسفية إلى صميم العقيدة الإسلامية، أن صار ذلك العصر هو عصر النضج

واكتمال بناء المذهب بالنسبة للمعتزلة، وفيه برز عدد كبير من فلاسفتهم ومنظري

مذهبهم كأبي الهذيل العلاّف - شيخ المأمون وأستاذه -، وإبراهيم بن سيّار النظام،

ومعمر بن عباد السلمي، وبشر بن المعتمر وغيرهم.

وقد علا شأن الرافضة - لما بينهم وبين المعتزلة من الأواصر العقدية -

وبدءوا يجهرون بآرائهم في الإمامة والولاية والرجعة وغيرها.

وفي وسط هذا المناخ المضطرب نشأت كثير من الحركات السرية الإلحادية

والتي عرفت بحركات الزنادقة، وكان يقف خلفها الباطنيون المتربصون بالإسلام.

وبالجملة فلقد كان ذلك العصر هو الذي وصفه الرسول -صلى الله عليه

وسلم- بقوله في الحديث: (ثم ينشد الكذب) [1] .

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في وصف ذلك العصر: (وفي هذا الوقت

ظهرت البدع ظهوراً فاشياً، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها،

وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيراً شديداً، ولم يزل

الأمر في نقصٍ إلى الآن، وظهر قوله -صلى الله عليه وسلم-: (ثم ينشد الكذب)

ظهورا بيناً، حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله المستعان) [2] .

وكان الخلفاء أنفسهم - ولأول مرة في الإسلام - يعتقدون البدع ويعلنونها

فكان المأمون موافقاً للمعتزلة في معظم عقائدهم، وكان إلى ذلك مرجئاً، وجاء من

بعده: المعتصم، فالواثق، فكانا على نهجه.

وقد عمل المأمون بعد ولايته على نصر مذهب المعتزلة، فقرب رؤوسه

كأحمد بن أبي دؤاد، وعقد مجال المناظرة بين المعتزلة وخصومهم من أهل السنة،

فلما لم تجد شيئاً بدأ بالتضييق على الناس وإلزامهم بالقول بخلق القرآن ونفي الرؤية، حتى أصبح القول بذلك شرطاً عنده لتولي المناصب بما فيها القضاء!

وحين كان بالرقة استطاع وزراؤه المعتزلة أن يقنعوه بحمل الناس على

المذهب بالقوة، فكتب إلى واليه على بغداد بجمع العلماء وامتحانهم في مسألة خلق

القرآن وحمل من يرفض هذه العقيدة مقيداً مصفداً إلى المأمون.

فأجاب العلماء أجوبة تتراوح بين التقية وحسن التخلص إلا أربعة أصّروا

على عقيدة أهل السنة والمجاهرة بها، وهم: القواريري، وسجادة، ومحمد بن

نوح، والإمام أحمد.

ثم أجاب الأوّلان تحت ضغط التعذيب والإرهاب، وحمل الآخران إلى

المأمون مكبَّلين بالقيود، فتوفي محمد بن نوح في الطريق، وبقي الإمام أحمد وحده

في الطريق!

ثم مات المأمون، فرد أحمد إلى بغداد، وأخذت الفتنة مدى أوسع في عهد

المعتصم، حيث سجن الإمام أحمد مقيداً نحواً من ثلاثين شهراً، وكان يصلي وينام

والقيد في رجله!

وفي كل يوم كان ينفذ إليه المعتصم من يناظره ويهدده إن لم يجب بأشد مما

هو عليه، ثم يزاد في قيوده، وقد جهد المعتصم في التأثير على موقف الإمام

بالملاينة والعطف وإظهار الفضل، والترغيب والوعد.. فكانت كلمة الإمام واحدة

لا تتغير. حتى إذا استفرغوا وسعهم أضمروا الشدة والقسوة، وشعر الإمام بذلك

فكان يشد عليه سراويله وينتظر الضرب، فيأتي المعتصم يناظره ويناظرونه، حتى

يثور غضبه فيشتم الإمام ويأمر بسحبه وتخليعه، وظلوا على هذه الحال يأتي

الجلادون بالسياط الغليظة فيردها المعتصم. ليطلب أغلظ منها ويأخذ الجلادون

دورهم فيضربه كل واحد منهم سوطين، والمعتصم يحرضهم وهو واقف على

رؤوسهم حتى أغمي على الإمام أحمد، فلما أفاق جاؤوا إليه بسويق، فقال: لا

أفطر! وصلى - رحمه الله - والدماء تسيل في ثوبه.

قال الإمام أحمد: ذهب عقلي مراراً، فكان إذا رفع عني الضرب رجعت إليَّ

نفسي، وإن استرخيت وسقطت رفع عني الضرب.

وقال أحد الجلادين: لقد ضربت أحمد ثمانين سوطاً لو ضربتها فيلاً لهدته.

وكان الإمام أحمد ينتظر الشهادة في سبيل الله، فحين نخسه أحد الحراس

بسيفه فرح وقال: جاء الفرج، يضرب عنقي وأستريح، فقال ابن سماعة [3] : يا

أمير المؤمنين: اضرب عنقه ودمه في رقبتي، فقال ابن أبي دؤاد: لا يا أمير

المؤمنين، إن قتل أو مات في دارك قال الناس: صبر حتى قتل، فاتخذوه إماماً،

وثبتوا على ما هم عليه ولكن أطلقه الساعة فإن مات خارجاً عن منزلك شكّ الناس

في أمره.

فأخرج الإمام أحمد وفي كل موضع منه جراحة حتى إن أحداً لمّا هم بمساعدته

على النزول من الدّابة وقعت يده على بعض تلك الجراحة وهو لا يشعر فصاح

الإمام أحمد فنحى يده عنه. وجاءه بالطبيب فكان يدخل الميل في بعض الجراحات، وكان يأتي بالحديدة فيعلق بها بعض لحمه ليقطعه بالسكين وأحمد صابر يحمد الله.

ولما مات المعتصم وولي الواثق فرض الإقامة الجبرية على الإمام أحمد، فلا

يخرج حتى للصلاة، ولا يجتمع إليه أحد، حتى هلك الواثق، ثم جاء بعده المتوكل، فرفع المحنة، ونصر السنة، وقرّب أهلها.

لقد كان انتصار الإمام في تلك المحنة الرهيبة القاسية انتصاراً للتيار الأثري

الملتزم بما كان عليه سلف هذه الأمة في جميع نواحي الاعتقاد، وليس في مسألة

القرآن فحسب، فثبت الناس على ما هم عليه بفضل الله، ثم بفضل وجود القيادة

التي تتحطم عندها أمواج البدعة، وهذا كان رد الإمام أحمد على المروزي حين

طلب منه التقية فقال له: اخرج فانظر! قال: فخرجت فرأيت خلقاً لا يحصيهم إلا

الله تعالى، والصحف في أيديهم والأقلام والمحابر، فقال لهم: أي شيءٍ تعملون؟

قالوا: ننظر ما يقول أحمد فنكتبه!

يقول الشيخ أحمد شاكر تعليقاً على موقف الإمام أحمد:

(أما أولو العزم من الأئمة الهداة، فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى

ويثبتون، وفي سبيل الله ما يلقون، ولو أنهم أخذوا بالتقية، واستساغوا الرخصة

لضل الناس من ورائهم؛ يقتدون بهم ولا يعلمون أن هذه تقية، وقد أُتي المسلمون

من ضعف علمائهم في مواقف الحق.. لا يجاملون الملوك والحكام فقط! بل

يجاملون كل من طلبوا منه نفعاً أو خافوا ضرّاً في الحقير والجليل من أمر الدنيا..، ولقد قال رجل من أئمة هذا العصر المهتدين: (كأن المسلمين لم يبلغهم من هداية

كتابهم فيما يغشاهم من ظلمات الحوادث غير قوله تعالى: [إلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] ، ثم أصيبوا بجنون التأويل فيما سوى ذلك..) [4] .

لقد صار الإمام أحمد علماً شامخاً يقتدى به ويقتفى أثره، وارتبط به مذهب

أهل السنة أيما ارتباط حتى ليقال: عقيدة الإمام أبي عبد الله، ولا شك أن جماهير

العلماء والأئمة في زمنه كانوا على ذات العقيدة، ولكنها عرفت به لما بذل في

سبيلها وتحمّل من أجل إقرارها. قال بعض العلماء عشية دفن أحمد: (دفنا اليوم

سادس خمسة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعمر بن عبد العزيز، وأحمد

بن حنبل [5] ) .

وقيل لآخر: لو تكلمت يوم ضُرب أحمد؟ ! قال: أتأمروني أن أقوم مقام

الأنبياء؟ [6] . وقال إسحاق بن راهويه: لولا أحمد وبذل نفسه لما بذلها له لذهب

الإسلام [7] . وقال الحارث بن عباس: قلت لأبي مسهر: هل تعرف أحداً يحفظ

على هذه الأمة أمر دينها؟ قال: لا أعلمه إلا شابٌ في ناحية المشرق، يعني أحمد

بن حنبل [8] . وقال علي بن المديني: إن الله أعز هذا الدين بأبي بكر الصديق

يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة. وقال أبو حاتم: إذا رأيت الرجل يحبُ

أحمد فاعلم أنه صاحب سنة [9] .

ولقد مر زمان والإمام أحمد أعزل من كل شيء، وحيد فريد، لا يجلس إليه

أحد، ولا يعضده في موقفه أحد.. وكان لأعدائه الجاه والسلطان والدولة، فكان

يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز! . فلم تمض أويقات قليلة حتى علا

شأنه، رحمه الله، وذاع صيته، وانتشر مذهبه، وعظم قدره، حتى تضايق هو

من ذلك، وتمنى الموت لكراهيته للشهرة وحبِّه للخمول. أما في الموت فإن أقل ما

حرزت به جنازته سبعمائة ألف إنسان! .

قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: (وقد صدق الله قول أحمد في هذا؛ فإنه

كان إمام السنة في زمانه، وعيون مخالفيه، أحمد بن أبي دؤاد وهو قاض من قضاة

الدنيا لم يحتفل أحدٌ بموته، ولم يلتفت إليه، ولما مات ما شيعه إلا قليل من أعوان

السلطان، وكذلك الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه وتنقيره ومحاسبته

نفسه في خطواته وحركاته لم يصل عليه إلا ثلاثة أو أربعة من الناس، وكذلك بشر

بن غياث المريسي لم يصل عليه إلا طائفة يسيرة جداً، فلله الأمر من قبل ومن

بعد) [10] .

ولم يكن هذا هو الجانب الوحيد الذي قاد فيه الإمام أحمد معسكر أهل السنة

فخرج ظافراً منصوراً، بل إن ثمة جوانب أخرى كثيرة نشير إشارة سريعة إلى

واحدٍ منها ألا وهو وقوفه - رحمه الله - في وجه طغيان المادة، وسريان روح

الترف القاتل في أوساط المسلمين.

فقد كان في نفسه - رحمه الله - مثلاً أعلى في الزهد والورع والتعفف

والإعراض عن زخارف الدنيا ومباهجها، ولقد رفض أموال السلاطين، ولم يقبل

عطايا المتوكل، كما فرض على بنيه وقرابته عدم أخذ شيءٍ من ذلك، فكان

المتوكل يصلهم سراً! وله في الزهد والورع حكايات عجيبة عجيبة، ولا ندري

والله ما نأخذ منها وما ندع، فليراجعها من شاء في مظانّها؛ فهي مما يحرك في

النفس عزيمة الاقتداء.

ولقد صنف - رحمه الله -في ذلك كتابي: (الزهد) و (الورع) .

وإن كنّا من وراء هذه المفاوز البعيدة نقراً سيرته فنتطلع إلى الإقتداء والاتباع

والاهتداء، فما بالك بالناس في عصره وهم يرون بأعينهم - على الدوام - ما

نسمعه نحن سماعاً، فلا يكاد يستقر في الأفهام؛ بل ما بالك بتلاميذه وأقرانه وأبنائه

وجيرانه..

أيّ روحٍ يشيعه وجود مثل هذا الصديق بينهم؟ [11] .

(يتبع)

طور بواسطة نورين ميديا © 2015