مجله البيان (صفحة 4781)

التورق نافذة الربا في المعاملات المصرفية

دراسات في الشريعة

التورق

نافذة الربا في المعاملات المصرفية

د. محمد بن عبد الله الشباني

* مقدمة:

الواقع المعاصر للمعاملات المالية يتسم بالولوغ في الربا، فلم يقتصر الأمر

على الربا الصريح الذي تمارسه البنوك التجارية وغيرها من المؤسسات المالية،

ولكن الأمر تعدى ذلك إلى توسيع نطاق الربا تحت مسمى المعاملات الإسلامية.

فدخل التعامل الربوي حياة فئات كثيرة من الناس كانت تتحرج من الاقتراض

والإقراض الربوي، ولكن وقعوا فيه من خلال ما تم طرحه من فتاوى صادرة من

اللجان الشرعية لهذه البنوك تجيز الحصول على المال منها، حيث تتسم تلك

الفتاوى بانتهاج أسلوب البحث عن مخارج شرعية لتحليل الربا بإضفاء صيغة البيع

على الاقتراض والإقراض الربوي.

وظهرت مسمّيات تزعم بأنها معاملات متوافقة مع الشريعة الإسلامية، وذلك

بالاتكاء على الفتاوى الصادرة من اللجان الشرعية لتلك البنوك، وأصبح يُطلق على

كثير من عمليات التحايل على التمويل الربوي مسميات مضللة؛ مثل «التورق

المبارك» ، و «التمويل المبارك» ، و «تمويل الخير» ، و «التيسير» ،

و «تورق الخير» و «برنامج أتقى وأنقى» ، كبديل لما يعرف في البنوك

التجارية بالودائع الآجلة، وكل هذه البرامج من الإقراض والاقتراض تحت تلك

المسميات ما هي إلا أكل للربا وتأكيله.

ولقد تحقق ما أشار إليه الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام في الحديث

الذي رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة أنه قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليأتين على الناس زمان لا يبقى منهم أحد إلا

أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من غباره» ، وفي رواية لأحمد عن أبي هريرة قال:

«يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا فمن لم يأكله ناله من غباره» ، وقد

ورد في هذا المعنى حديث رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي

صلى الله عليه وسلم قال: «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال؛

أم من حلال أم من حرام» .

هذه الظاهرة بدأت في التجذر والاتساع في المعاملات المصرفية لتوسيع نطاق

الربا باستخدام ما يعرف في الفقه الإسلامي بصيغة «التورق» في شراء السلع

وبيعها، وإدخالها في جميع المعاملات المصرفية ذات الطابع الإقراضي

والاقتراضي باعتباره مخرجاً من الربا، سواء فيما يتعلق بتمويل الأفراد

والمؤسسات، أو بإعطاء الفائدة للمودعين فيما يُعرف في المصطلح البنكي بالفائدة

على الودائع لأجل، واستُخدمت صيغة التورق أداة ومخرجاً للإقراض والاقتراض

من قِبَل المصارف، ولهذا فإن من الواجب الشرعي مناقشة حقيقة هذه الصيغة وما

ينتج عنها من عقود يتم التعامل بها من قِبَل البنوك التجارية؛ بدارسة كيفية منحها

التمويل من خلال بيع المرابحة باستخدام صيغة التورق كحيلة لاستحلال الربا،

وهذا ما سنعرضه من خلال الجوانب الآتية:

أولاً: الحيل الفقهية وتعارضها مع مقاصد الشريعة.

ثانياً: بيع التورق وعلاقته بالحيل الفقهية.

ثالثاً: ماهية الربا وحقيقته.

رابعاً: عقود التورق كما تُمارس من قِبَل البنوك.

خامساً: ربوية صيغة التورق كما تتم في البنوك.

* أولاً: الحيل الفقهية وتعارضها مع مقاصد الشريعة:

الحيل الفقهية أسلوب من الأساليب التي تُتبع؛ إما للوصول إلى ما حرّمه الله

تحت غطاء الشرع، وإما للبحث عن مخارج تحل بعض القضايا التي قد تتعارض

في ظاهرها مع القواعد والعلل التي يستند إليها الفقهاء في تحديد الحكم الشرعي لأي

قضية من القضايا.

المعنى اللغوي للحيل والتي مفردها حيلة: عرفت في المعجم الوسيط

بـ (تحيل كان حاذقاً جيد النظر قديراً على دقة التعرف في الأمور) [1] ، وقد

استعرض صاحب كتاب الحيل الفقهية في المعاملات المالية المفهوم الخاص بالحيل،

ووصل في تحليله لمفهوم الحيل إلى القول (بأن الحيلة تطلق ويراد بها عدة معان،

فيراد بها التحول والانتقال من حالة إلى أخرى ومن شيء إلى آخر، أو بمعنى

الحيلولة والحجز بين الشيئين أو الإنسان والشيء، أو بمعنى عدم الحمل بالنسبة لكل

أنثى، وبمعنى طلب الحيلة؛ أي الاحتيال، وبمعنى الصفة) [2] .

أما المعنى الفقهي فيقول ابن القيم: (فالحيلة هي نوع مخصوص من

التصرف والعمل الذي يتحول به فاعله من حال إلى حال، ثم غلب عليها بالعرف

استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى حصول غرضه؛

بحيث لا يُفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة، فهذا أخص من موضوعها في اللغة،

وسواء كان المقصود أمراً جائزاً أو محرماً. وأخص من هذا استعمالها في

الغرض الممنوع شرعاً أو عقلاً أو عادة، فهذا هو الغالب عليها في عرف الناس)

[3] .

ومن هنا فإن الحيل لا تعتبر جميعها محرمة، وإنما المحرم ما كان وسيلة إلى

الوصول إلى ما حرم أخذه أو فعله. ولذا لا بد من معرفة الفرق بين الحيل المحرمة

والحيل الجائزة، يقول الشاطبي: (الحيل التي تقدم إبطالها وذمها والنهي عنها ما

هدم أصلاً شرعياً وناقض مصلحة شرعية، فإن فُرض أن الحيلة لا تهدم أصلاً

شرعياً ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها فغير داخلة في النهي) [4] ، وقد

وضع الإمام الشاطبي - رحمه الله - مقياساً يتبين به المتأمل نوع الحيلة، ومدى

قبولها من رفضها، يقول: (فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه

أو في إباحة ذلك المحرم عليه بوجه من وجوه التسبب؛ حتى يصير ذلك الواجب

غير واجب في الظاهر أو المحرم حلالاً في الظاهر أيضاً؛ فهذا التسبب يُسمّى حيلة

وتحيّلاً) [5] . ومن هنا يتضح أن أي أسلوب يُتخذ أو يُتبع يؤدي إلى إسقاط

الواجب أو تحليل المحرم في الظاهر؛ فإنه يُسمّى حيلة عند الفقهاء.

إن التحايل على الأحكام الشرعية بقصد إرضاء النفس والتحايل لأكل الحرام

وفعله؛ من الأمور التي حرمها الله تعالى في كتابه، وأجمع على تحريمها سلف هذه

الأمة، ومن أجاز صوراً من العقود البيعية للبنوك (والتي سنناقشها لاحقاً) ؛ بقصد

توفير احتياجات الناس للمال بدون إيقاعهم في الربا ظاهراً، وبقصد إخراجهم من

الضيق والحرج والتوسعة عليهم بحكم أن الشريعة دائرة أحكامها على التخفيف

واليسر والأخذ بالرخص؛ فهذا أمر غير مسوَّغ شرعاً، فإن من الأمور التي يأمر

بها الشرع تقوية الخوف من الله، وهذا من مقاصد الشرع، ولهذا نجد في كثير من

الأمور أن الشريعة حرّمت كثيراً من البيوع سداً لذريعة الربا، كما نهت عن

ممارسة كثير من الأمور المشتبهات بقصد تقوية الخوف من الله حذراً من الوقوع

فيما حرمه، ولهذا فلا ينبغي تتبع حيل المذاهب من أجل تلبية رغبة الناس

وإرضائهم، ومن الأمور المؤسفة تتبع الآراء الشاذة والحيل التي وضعها بعض

الفقهاء للابتعاد عن تنفيذ أحكام الله وعن مقاصد الشريعة التي من أجلها جاءت

الشريعة، وخاصة فيما يتعلق بالمعاملات المالية، كما هو حاصل الآن من إجازة

عقود تتعارض مع مقاصد الشريعة تلبية لرغبات الناس، ومن الأمور المقررة

شرعاً أن هناك تلازماً بين مقاصد الشريعة والنية والعمل، يقول ابن القيم: (فالنية

روح العمل ولبّه وقوامه، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، والنبي

صلى الله عليه وسلم قد قال كلمتين كفتا وشفتا وتحتهما كنوز العلم، وهو قوله:

«إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» ، فيبين في الجملة الثانية

أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه، وهذا يعم العبادات والمعاملات

والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل على أن من نوى بالبيع عقد

الربا حصل له ولا يعصمه من ذلك صورة البيع) [6] .

وقد استشهد - رحمه الله - لما توصل إليه من ارتباط المقاصد بالأفعال بقصة

أصحاب الجنة؛ (بأن حرمهم ثمارها لما توصلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط

نصيب المساكين، وكذا اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله، ولم يعصمهم

التوسل إلى ذلك بصورة البيع، فلم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها، فإنها

بعد الإذابة يفارقها الاسم، وتنتقل إلى اسم الودك، فلما تحيلوا على استحلالها بإزالة

الاسم لم ينفعهم ذلك ... وهذا معنى حديث ابن عباس الذي رواه أبو داود وصححه

الحاكم وغيره: «لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها،

وإن الله إذا حرّم على قوم أكل شيء حرّم عليهم ثمنه» ، يعني ثمنه المقابل لمنفعة

الأكل، فإذا كان فيه منفعة أخرى، وكان الثمن في مقابلتها؟ لم يدخل في هذا. إذا

تبين هذا؛ فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقاً بمجرد اللفظ وبظاهر من القول دون

مراعاة المقصود للشيء المحرم ومعناه وكيفيته؛ لم يستحقوا اللعنة لوجهين:

أحدهما: أن الشحم خرج بجمله (إذابته) عن أن يكون شحماً وصار ودكاً،

كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعاً عند من يستحل ذلك،

فإن من أراد أن يبيع مائة بمائة وعشرين إلى أجل فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم

اشتراه بالثمن الحال ولا غرض لواحد منهما في السلعة بوجه ما، وإنما هي كما قال

فقيه الأمة: «دراهم بدراهم دخلت بينهما حريرة» ؛ فلا فرق بين ذلك وبين مائة

بمائة وعشرين درهماً بلا حيلة البتة، لا في شرع ولا في عقل ولا عرف، بل

المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال وأزيد منها.

الوجه الثاني: أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، وإنما انتفعوا بثمنه. ويلزم

من راعي الصور والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن لا يحرم ذلك، فلما

لُعنوا على استحلال الثمن وإن لم ينص لهم على تحريمه؛ علم أن الواجب النظر

إلى الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة) [7] .

* ثانياً: بيع التورق وعلاقته بالحيل:

التورُّق نوع من البيوع اختُلف في جوازه، فقد منعه كثير من العلماء، كما

أجازه بعضهم مع تحفظ وشروط لا بد من توفرها عند التعامل بها، ومن أهمها

توفر صيغة البيع الشرعي الصحيح، والبيع كما عرفه الجصاص هو: (تمليك

المال بإيجاب وقبول عن تراض بينهما) ، ومن هذا التعريف فالبيع الصحيح هو ما

تم فيه نقل الملك، وتم فيه القبض، باستثناء بيوع الآجال المرخص فيها، وكان

ذلك بعوض على وجه جائز شرعاً [8] .

والحيل في البيوع تأتي بفقدان عنصر من عناصر صحة البيع؛ إما بفقد

التقابض أو التراضي الصحيح، أو عدم الجواز الشرعي في الثمن أو المثمن، ومن

هنا تأتي الحيل لتصحيح المعاملة لتأخذ الشكل المباح. يقول ابن قدامة في المغني:

(والحيل كلها محرمة غير جائزة في شيء من الدين، وهو أن يظهر عقداً مباحاً

يريد به محرماً؛ مخادعة وتوسلاً إلى فعل ما حرم الله واستباحة محظوراته أو

إسقاط واجب) [9] . ويعرّف مجلس المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم

الإسلامي في دورته الخامسة عشرة بتاريخ 11 رجب عام 1419هـ التورق بأنه

(شراء سلعة في حوزة البائع وملكه بثمن مؤجل، ثم يبيعها المشتري بنقد لغير البائع

للحصول على النقد) ، ومن هذا التعريف ندرك شرط تملُّك السلعة وحيازتها بعينها

لدى البائع قبل البيع، مع عدم شرائه لها مرة أخرى بأي أسلوب. وهذا البيع نوع

من أنواع بيوع المضطر، وقد ورد في مسند الإمام أحمد عن علي - رضي الله

عنه -، كما نقله ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) ، قال: (سيأتي على

الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤثر بذلك، قال الله

تعالى: [وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُم] (البقرة: 237) ، ... ويبايع المضطرون،

وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وعن بيع الغرر،

وبيع الثمر قبل أن يطعم) . وقد علق ابن القيم على هذا الحديث بقوله: (فإن

عامة العينة إنما تقع من رجل مضطر إلى نفقة؛ يضن بها عليه الموسر بالقرض

حتى يربح عليه في المائة ما حب، وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي

العينة، وإن باعها لغيره فهو التورق، وإن رجعت إلى ثالث يدخل بينهما فهو محلل

الربا. والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق، وقد كرهه عمر بن عبد

العزيز وقال هو آخية الربا بوزن قضية، تربط إلى وتد مدقوق تشد بها الدابة،

وعن أحمد فيه روايتان، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطر، وهذا من فقهه

- رضي الله عنه -، قال: فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر. وكان شيخنا

- رحمه الله - يمنع من مسألة التورق وروجع فيها مراراً وأنا حاضر فلم يرخِّص

فيها، وقال المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه، مع زيادة الكلفة

بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأدنى وتبيح ما هو

أعلى منه) [10] .

والتورق صورة من صور بيوع العينة، فبيع العينة كما عرّفه الفيومي في

المصباح بقوله: (العينة بالكسر السلف، واعنان الرجل اشترى الشيء بالشيء

بنسيئة، والاسم العينة بالكسر، وفسّرها الفقهاء بأنها بيع الرجل متاعه إلى أجل ثم

يشتريه في المجلس بثمن حال ليسلم له، وقيل لهذه البيع عينة؛ لأن مشتري السلعة

إلى أجل يأخذ بدلها عيناً؛ أي نقداً حاضراً) [11] ، وقد عرف الإمام ابن تيمية

- رحمه الله - العينة بقوله: (العينة في الأصل السلف، والسلف يتم بتعجيل الثمن

وتعجيل المثمن وهو الغالب هنا، يقال اعنان الرجل وتعين إذا اشترى الشيء

بنسيئة، كأنها مأخوذة من العين (الدنانير والدراهم) وهو المعجل، وصيغت على

«فعلة» لأنها نوع من ذلك، وقال أبو إسحاق الجوزجاني: إنها من العين؛ لحاجة

الرجل إلى العين من الذهب والورق) [12] .

وهذا التعريف للعينة، والتي قد أجمع علماء المسلمين على تحريمها، ينطبق

على بيع التورق، حيث إن القصد من بيع التورق هو الحصول على النقد، فيتم

شراء سلعة مؤجلة السداد لبيعها بقصد الحصول على النقد، والإمام أحمد - رحمه

الله - عندما أجاز التورق في إحدى روايتيه إنما أجازه مع الكراهة، يقول ابن القيم:

(وعن أحمد فيه (التورق) روايتان الحرمة والكراهة) ، وأشار في رواية

الكراهة إلى أنه (المتعامل في التورق) مضطر. وبالتالي فإن للاضطرار أحكامه،

فليس كل من رغب في المال لشراء ما تشتهيه نفسه أو يتوسع في تجارته يعتبر

مضطراً، فيتم التعامل بصيغة التورق ليصبح الأمر حلالاً صرفاً، كما يتم الإعلان

عنه في الصحف من قِبَل البنوك التي تدعو الناس إلى الاقتراض بأسلوب صيغة

التورق، مع عدم الالتزام بقواعد التعامل في التورق وفق ما تمت إجازته من قِبَل

أعضاء مجلس مجمع الفقه الإسلامي، حيث اشترط التملك والحيازة لبائع السلعة

لمشتريها من البنك، فهذا الشرط مفقود في التعامل الذي تمارسه البنوك كما سوف

نناقشه لاحقاً.

* ثالثاً: ماهية الربا وحقيقته:

لإدراك علاقة بيع التورق بالربا المعاصر، وأنه وسيلة من وسائل استحلال

الربا؛ فإن من الضروري تحديد ماهية الربا وحقيقته؛ حتى يمكن فهم حقيقة اندفاع

البنوك لتبني هذا النوع من حيل لاستحلال الربا، وإشاعته، وتيسير أكله وتأكيله

ضمن غطاء الإباحة الشرعية، وأنه تعامل تجيزه الشريعة وفق ما أفتت به اللجان

الشرعية التي كونتها هذه البنوك. فهذه الصيغة من التحايل لا تختلف عن حقيقة ما

تمارسه من تعامل ربوي صرف.

إن مادة كلمة الربا تعني الزيادة والنمو، فقد جاء في لسان العرب بأن الأصل

فيه هو الزيادة من ربا المال إذا زاد، فالمعنى اللغوي المجرد يعتبر زيادة في ذات

الشيء، وهذا المعنى قد ورد في القرآن الكريم عند الحديث عن الربا في قوله

تعالى: [وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ

اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ] (البقرة:

278-279) ، وقوله تعالى: [وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو

عِندَ اللَّهِ] (الروم: 39) . والزيادة على المال المقرض إنما هو من أجل التأجيل

كما أشار إليه أبو بكر الجصّاص في كتابه (أحكام القرآن) ، يقول: (معلوم أن

ربا الجاهلية إنما هو قرض مؤجل بزيادة مشروطة، وكانت الزيادة بدلاً من الأجل،

فأبطله الله تعالى) [13] .

وهذا المفهوم يؤكده الإمام الرازي في تفسيره بقوله: (إن ربا النسيئة التأجيل

هو الذي كان مشهوراً في الجاهلية؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل

على أن يأخذ منه كل شهر قدراً معيناً ورأس المال باق بحاله، فإذا حلَّ طالبه برأس

ماله، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل) [14] . وهذا المفهوم هو

المتعارف عليه في العمل المصرفي، فالسلعة التي يتعامل بها البنك هي النقد، فهو

يتجر في النقد، وبالتالي فإن النقد هو السلعة بدلاً من أن تكون مقياساً لأقيام السلع

فيما بينها، فأصبح سلعة بذاته، فخرج النقد عن الوظيفة التي من أجلها تم قبوله

بين الناس، ولهذا فإن وحدات النقد التي تضاف إلى نفس النقد إنما تتحدد بنسبة من

هذه الوحدات مربوطة بالزمن الذي يبقى في ذمة المقترض، وبالتالي فإن مكونات

الربا تتمثل في ثلاثة عناصر، هي زيادة على كمية النقد المقدم، وهذه الزيادة تحدد

بالمدة، وهذه النسبة من الزيادة شرط في المعاملة، وبالتالي فأي تعامل تتوافر فيه

هذه الصفات؛ فهو في حقيقته تعامل ربوي حتى لو سمّي بغير ذلك.

وقد أشار الإمام محمد بن رشد القرطبي في كتابه (بداية المجتهد) إلى أن

أصول الربا خمسة، هي:

أنظرني أزدك، والتفاضل، والنسأ، وضع وتعجل، وبيع الطعام قبل قبضه.

وعندما ناقش موضوع ضع وتعجل، أشار إلى حجة من لم يجز ضع وتعجل،

والتي تؤكد حقيقة الربا، بقوله: (وعمدة من لم يجز «ضع وتعجل» أنه نسيئة

بالزيادة مع النظرة المجتمع على تحريمها، ووجه شبهه أنه هل للزمان مقدار من

الثمن بدلاً منه في الموضعين جميعاً، وذلك أنه هنالك لما زاد له في الزمان زاد له

عرضه ثمناً، وهنا لما حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمناً) [15] .

والشاهد من هذا أن الربا يرتبط بالزمن، فالقيمة المضافة على رأس المال

ابتداء أو بعد انتهاء مدة القرض مربوطة بالزمن، فالزمن هو مقياس تحديد قيمة

النقد باعتباره سلعة يتم بيعها وشراؤها، وهذا هو حقيقة الربا، وسوف نلاحظ عند

مناقشة صيغ عقود التورق التي تجريها البنوك لاستحلال أخذ الربا ومنحه؛ أن تلك

العقود ما هي إلا وسيلة لأخذ الربا وأكله.

* رابعاً: عقود التورق كما تُمارس من قِبَل البنوك:

الصيغ التي تتبعها البنوك لتوفير المال للمحتاجين إليه من الأفراد والشركات

والمؤسسات، أو لجذب المال لها كبديل للودائع الآجلة التي تمنح عليها فوائد وفق

ما يطلق عليه الصيغة الإسلامية للتعامل؛ تفاوتت فيها المسميات التي أطلقتها تلك

البنوك مثل «تيسير الأهلي» ، و «تورق الخير» ، و «برنامج نقاء» ،

و «التورق المبارك» .. وغير ذلك من أساليب الدعاية التي تضلل المتلقي

لهذه الإعلانات بما توجهه له من أن ما يتم ممارسته لا يتعارض مع أحكام

الشريعة الإسلامية. وأن صيغة العمل والمرتكز الذي تدور عليه عملية التمويل

واحدة، وهو ما أطلق عليه صيغة التورق، والتي تأخذ شكلية شراء السلع وبيعها

من خلال بورصة البضائع العالمية، أو من خلال الاتفاقيات مع عدد من نقاط البيع

بالنسبة لما يطلق عليه بطاقة الخير الائتمانية وشبيهاتها من بطاقات الائتمان.

لقد تم التوسع باستخدام صيغة بيع التورق من قِبَل مختلف البنوك، حيث

يوفر لها وسيلة جذب لإغراق الناس في الاقتراض والإقراض، وهذا يستدعي

مناقشة العقود التي أمكنني الاطلاع على بعضها حتى يمكن التعرف على كيفية

التعامل مع صيغة التورق التي تمارس من قِبَل هذه البنوك؛ حتى نتمكن من الحكم

على مدى حرمة هذا التعامل، وسيتم مناقشة عقد التورق من جانبين:

الأول: جانب أن يكون البائع للسلعة هو البنك؛ أي أن البنك يقوم بتوفير

السيولة النقدية من خلال صيغة التورق تحت مسمى عقد بيع بالتقسيط وبيع

المرابحة.

والثاني: أن يكون البائع هو المودع الذي يرغب في إيداع أمواله في البنك

وأخذ فوائد عليها، واستخدام صيغة التورق لأخذ الفائدة على المال المودع لأجل.

وفي كلا الحالتين فما يُتبع هو استخدام صيغة التورق من خلال شكلية بيع

المرابحة بالأجل لسداد الثمن للبائع سواء للبنك أو للمودع لدى البنك.

أما في حالة قيام البنك بتوفير السيولة للمقترض من خلال بيع المرابحة

المقسط ضمن صيغة التورق؛ فإن الإجراءات التي يتم اتباعها لتنفيذ هذه الصيغة

من البيع تتمثل في الآتي:

1 - يتقدم طالب التمويل إلى البنك بطلب شراء سلعة بالتقسيط من السلع التي

تعرض في سوق البورصة العالمية، والتي قد تم شراؤها من قِبَل البنك وفق آلية

السوق المالية للسلع (البورصة) ، وفي هذا الطلب يتم الحصول على معلومات

عن طالب المال من حيث إمكانياته المالية؛ أي قدرته على السداد من حيث مقدار

راتبه الذي سوف يكون المرتكز عليه في تحديد حجم المبلغ الذي سيتم دفعه له

ضمن صيغة التورق التي يمارسها البنك بجانب معرفة تعاملاته مع البنوك الأخرى

(أي مقدار الالتزامات التي عليه تجاهها) مع تحديد نوع السلع التي يتعامل البنك

فيها في سوق البورصة، والتي يتم تداولها يومياً في أسواق البورصة العالمية،

ويرفق بالطلب المستندات الثبوتية التي تساعد البنك على تحديد قدرة الطالب على

السداد.

2 - وبعد دراسة الطلب يقوم البنك بتحديد عدد وحدات السلعة المباعة عليه

ومواصفاتها، وثمن بيعها، ويرتبط تحديد عدد الوحدات التي سوف تباع عليه

بقدرته على السداد، وإذا قبل العميل بما عرضه البنك من مقدار التمويل الذي يمكن

للبنك منحه إياه؛ يتم توقيع عقد بيع سلعة بالتقسيط وفق ما تطلق عليه البنوك

«بيع المرابحة» .

3 - يقوم العميل بتوكيل البنك لبيع وحداته التي اشتراها وفق نموذج وكالة؛

يتم بموجبها تفويض البنك في بيع هذه الوحدات المباعة عليه في السوق الدولي،

وإيداع المبلغ في حسابه مع تحمله لكل ما يترتب على التغير في السعر وما ينتج

عن ذلك من خسارة، وإيداع المبلغ في حسابه لدى البنك.

هذه هي العملية التي يقوم بها البنك من شراء لوحدات في سوق العقود

المستقبلية للبضائع (البورصة) ، ثم بيعها مرابحة على العميل طالب التمويل، ثم

بيعها في سوق السلع الدولية (البورصة) لصالح العميل (المشتري) مع تحمله

لتقلبات الأسعار. وفي بعض عقود البيع بالتقسيط لدى بعض البنوك يجمع عقد

البيع بالتقسيط مع عقد الوكالة بالبيع في عقد واحد.

بدراسة هذه العقود التي يتم بموجبها توفير النقد للأفراد والمؤسسات؛ وجد في

بعضها أن البيع يتم على تملك السلعة المباعة على العميل بموجب ما يسمّى بشهادة

التخزين، والتي يشار فيها إلى أن السلعة موجودة في البلد الذي يوجد فيه عادة

سوق البورصة الذي يتعامل معها البنك، ويذكر في العقد إجمالي السلع ولا يشار

إلى مقدار الربح بل يدخل ضمن مبلغ البيع مع الإشارة إلى أن البيع تم وفق بيع

المرابحة. أما بعض العقود فيشار في طلب الحصول على المال حسب صيغة

التورق أنه عند الموافقة على طلبه فيتم تحديد مقدار الربح وتكلفة السلعة مع التزامه

بتحديد دفعة أولى لضمان جدية الشراء، والتزامه أيضاً بدفع رسوم إدارية لعملاء

البنك؛ أي للمودعين. كما أن من ضمن الشروط في بعضها في حالة التأخر في

سداد الأقساط؛ التزام المشتري بتعويض البنك عن الأضرار الناتجة عن التأخير،

وفي بعضها يتم فرض غرامات عليه يتم احتسابها على أساس نسبة من المبالغ

المستحقة مع مدة المطل، ويقوم البنك بصرفها في أوجه البر والخير.

وأما الحالة الثانية؛ فهي حالة معكوسة:

يقوم عميل البنك ببيع سلعة من السلع التي يتم تداولها في سوق البورصة على

البنك بأسلوب ما يطلق عليه «بيع المرابحة» ، ويتم سداد المبلغ من قِبَل البنك

عند حلول الأجل (رأس المال مع الربح) في الحساب الجاري للعميل، ويشترط

في العقدين نماذج عرض بيع سلعة، وطلب شراء سلعة، وطلب تعجيل، ووكالة

شراء السلعة، وتفويض البنك ببيع السلعة جزء من العقد.

وهذه النماذج تحدد الخطوات العملية التي يتم بموجبها قيام العميل بإيداع

المبلغ والمبالغ التي يتم بموجبها قيام عميل البنك الذي يتوفر لديه سيولة نقدية

ويرغب في إيداعها لأَجَل وأخذ فائدة عليها، ولكن بأسلوب ما أطلق عليه أسلوب

التورق بادعاء تجنب الربا.

والإجراءات التي يتم اتباعها في هذه الحالة تتمثل في الآتي:

1 - يوقع العميل على اتفاقية ما يطلق عليه «برنامج نقاء» .

2 - يطلب العميل عرض أسعار، ويقدم البنك عرض الأسعار مع تحديد نوع

السلعة والعملة والأجل.

3 - يطلب العميل شراء السلعة بعد الموافقة على العرض مع تحديد المبلغ

والعملة والأجل.

4 - يقوم البنك نيابة عن العميل بإتمام عملية شراء السلعة من سوق تبادل

المعادن الدولي لصالح العميل مع إصدار البنك إيجاباً بشراء السلعة من العميل.

5 - يوافق العميل على بيع السلعة المملوكة له للبنك، ويتم سداده عند الأجل

المحدد (المبلغ مع ربحه) .

6 - في حالة التعجيل بسداد المبلغ؛ يتم ذلك من خلال نموذج عقد تعجيل

سداد بعد أن يتم خصم جزء من أو كل هامش الربح مقابل السداد المبكر. أما التملك

فهو يتم من خلال تملك المستندات فقط دون الحاجة إلى أن يتم تملكها عيناً، وهذا

في جميع عمليات البيع والشراء التي يتم التعامل بها على صيغة التورق في البنوك.

إن جوهر عملية التمويل فيما يعرف بصيغة التورق التي يتم ممارستها من

قِبَل البنوك، والتي يتم فيها تداول السلع شراء وبيعاً؛ إنما هي سلع وفق ما يُعرف

بسوق المعادن والبضائع الدولي (البورصة) ، أو ما يطلق عليه بأسواق العقود

المستقبلية؛ أي الاتجار في أوراق ومستندات غير مبنية على أساس الشراء والبيع

القائم على أساس الاستلام والتسليم للسلع المباعة؛ أي لا يوجد حيازة تملُّك ولا

قبض للسلع المشتراة والمباعة، وإنما يتم التداول حسب وثائق يتم تبادلها ضمن آلية

معينة تتولاها بيوت السمسرة، ولهذا نجد أن البنوك التي تستخدم صيغة بيع التورق

تحدد السلع في أنواع؛ هي الزنك والبرونز والحديد والصفيح والنحاس والألمنيوم،

فالتعامل في البورصة إنما يتم على أساس التعامل في العقود المستقبلية، وما يتم من

تداول للسلع إنما يتم على أساس بيع العقود في أسواق عقود السلع، وهي أسواق

متخصصة تتعامل في عقود يتم تداولها فيما يعرف بالعقود المستقبلية، وهي عقود

تعطي لحاملها الحق في شراء وبيع كمية من أصل معين محدد السعر مسبقاً على أن

يتم الدفع والتسليم في المستقبل.

والبورصة العالمية للبضائع قد أبطلت ما كان يُعرف بالسوق الحاضرة؛ أي

بالسوق النقدية، حيث يتم فيها استلام السلعة ودفع قيمتها نقداً فور التعاقد، وقد

تحوّلت السوق الحاضرة إلى سوق للعقود المستقبلية منذ عام 1866م وحلّت محله

السوق المستقبلية.

أما ما يُطلق عليه «شهادة التخزين» ، والذي يشار إليها في بعض عقود

صيغ التورق بأنها تمثل حصة محجوزة قيمة وكمية خاصة بسلعة لصالح البنك عن

طريق السمسار لغرض التصرف فيها مستقبلاً، فهي لا تمثل شهادة من وكيل البنك

تثبت فيها وجود سلع تم استلامها من المنتجين وتم تخزينها في مستودعات خاصة

بالبنك أو مخازن مؤجرة لصالح البنك تحدد أن هذه السلع خاصة بالبنك، وما هذه

الشهادة إلا شهادة يصدرها المنتجون لهذه السلع لبيوت السمسرة الذين يمارسون

عمليات إنشاء وتداول العقود في سوق المعادن العالمي (البورصة) ، حيث يحدد

فيها مواصفات هذه السلع وكمياتها وتاريخ تسليمها، ويتم على ضوء هذه الشهادة

تداول العقود بيعاً وشراء، ومن ثم فلا يوجد مجال للتعامل مع السلعة نفسها داخل

سوق العقود.

* خامساً: ربوية بيوع التورق كما تجريها المصارف:

من خلال الاستعراض السابق لطبيعة صيغ التورق التي تمارسها البنوك

حالياً، والتي أخذت في الانتشار وأصبحت وسيلة لجذب أعداد كبيرة من

الناس للاقتراض من البنوك بمختلف الأساليب، سواء فيما يعرف بالتمويل

للمتاجرة في سوق الأسهم المحلية، أو العالمية، أو ما يسمونه بتمويل

المتاجرة بالأسهم بالمرابحة أو بالسلع، وكلها بيوع يتم فيها البيع بالأجل، وتوفير

المال لمن يحتاج إليه، أو حصول البنك على المال من المودعين فيما يطلق

عليه بالمضاربة الشرعية في السلع الدولية بالمرابحة، وكذا ما أطلق عليه

«برنامج نقاء» ؛ إنما هي عقود ووسائل لتحليل الربا ودفع الناس للاقتراض من

البنوك، وإيداع أموالهم وأخذ فوائد عليها، وقد أطلقت مسميات توحي بأن هذا

التعامل حلال ولا شبهة فيه، مثل «التورق المبارك» ، و «التمويل المبارك» ،

و «الحساب المبارك» ، و «بطاقة الخير الائتمانية» ، أو «تيسير الأهلي» ،

وكل هذه الصيغ اتخذت من صيغة التورق نافذة للإقراض والاقتراض بفائدة،

وإدخال الناس في دوامة الربا.

وحسب ما تمت مناقشته سابقاً حول علاقة بيع التورق بالحيل الفقهية لتحليل

أنواع من البيوع توصلاً لتحليل ما حرم الله، وكذلك مناقشة صيغ العقود المستخدمة

من قِبَل البنوك فيما يعرف بصيغة التورق من خلال التعامل مع البورصة العالمية

للسلع والأوراق المالية؛ فإن جميع هذه الصيغ من التمويل التي تمارسها البنوك

ضمن صيغة التورق؛ إنما هي صيغ محرمة لا يجوز التعامل بها؛ لأنها نوع من

أنواع بيع العينة المحرم.

وذلك للأمور التالية:

أولاً: إن عقد التورق الذي أجازه المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم

الإسلامي قد وضع قيوداً على هذا البيع، حيث عرف بيع التورق بأنه «شراء

سلعة في حوزة البائع وملكه ... » ، وما يتم من قِبَل البنوك التي تقوم ببيع سلع يتم

تداولها في سوق السلع (المعادن) العالمي (البورصة) لا يتوفر فيها هذا الشرط،

فنصوص عقود البيع التي تجريها هذه البنوك تشير إلى أن هذه السلع لا توجد لدى

البنك، وأن ما يطلق عليه «شهادة التخزين» لا تمثل حيازة للسلعة ولا شهادة

تملُّك، فمن المعروف والمتعارف عليه في سوق البضائع العالمي (البورصة) أن

التعامل فيه يتم من خلال بيت السمسرة، والذي يدير عمليات تداول عقود بيع سلع

تم شراؤها بسعر متفق عليه مسبقاً مع المنتج؛ على أن يتم التسليم في تاريخ لاحق

يناسب توقيت الحاجة إلى السلعة، وعند حلول الأجل يقوم بيت السمسرة بشراء

السلعة محل التعاقد من السوق الحاضر وتسليمها للمشتري.

وهذا ما يؤكد أنه لا يوجد مجال للتعامل على السلعة نفسها، ولكون هذا

التداول إنما يتم على أوراق، وليس حيازة وتملكاً للسلع، فإن بعض تلك البنوك

أشارت في عقودها إلى أن ما يتم يكون على أوراق وليس حيازة وتملكاً للسلع.

أما بعض البنوك فقد أشارت إلى أن حيازتها وتملكها للسلع إنما هو بموجب

«شهادة التخزين» ، حيث يشار في العقد إلى أن السلعة توجد في بلاد أخرى

غير البلد الذي يتم فيه تحرير العقد، ولتجنب الإلزام ومن أجل ترسيخ التحايل؛ لم

يشر إلى الوكالة وضرورة تفويض البنك بالبيع نيابة عنه، وإنما أشير إلى ذلك في

نص الوكالة، حيث أوضحت الوكالة أن السلع المشتراة من البنك هي سلع يتم تداولها

في سوق السلع (البورصة) ، بخلاف بنوك أخرى جعلت نماذج التفويض والوكالة

جزءاً من العقد، وهذا الأسلوب هو نوع من التهرب والتضليل ومحاولة إضفاء نوع

من صحة البيع، وأنه لا يوجد فيه شروط فاسده تفسد البيع. ولكن هذا الأسلوب من

التحايل لا يغير من حقيقة الأمر.

ثانياً: إن من أجاز بيع التورق من العلماء السابقين، ومنهم الإمام أحمد

- رحمه الله -، فقد أجازه مع الكراهة، وأشير في رواية الكراهة إلى إنه

مضطر [16] (أي المتعامل بالتورق) . أما الإمام ابن تيمية - رحمه الله - فقد وافق

الإمام أحمد في الرواية الثانية بالحرمة، يقول ابن القيم: (وكان شيخنا - رحمه

الله - يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها مراراً وأنا حاضر فلم يرخّص فيها،

وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود فيها بعينه، مع زيادة الكلفة بشراء

سلعة وبيعها والخسارة منها، فالشريعة لا تحرم الضرر الأول وتبيح ما هو أعلى

منه.... ودليل المنع قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل سلف وبيع، ولا

شرطان في بيع» ، وقوله: «من باع بيعتين فله أوكسهما أو الربا» رواه أبو

داود، وذلك لا يمكن وقوعه إلا على العينة) [17] .

ولا شك أن أسلوب التورق المتبع من قِبَل هذه البنوك هو بيع العينة بعيَنْه،

حيث يتولى البائع (البنك) شراء السلعة من السوق (البورصة) ، ثم بيعها على

المشتري، ثم بيعها مرة ثانية في سوق البورصة بقصد توفير المال الذي من أجله

تمت صياغة هذا العقد، وهذا ما حرّمه ابن عباس، فقد نقل ابن القيم عن محمد بن

عبد الله الحافظ المعروف بحطين في كتابه (البيوع) عن ابن عباس - رضي الله

عنه - قال: «اتقوا هذه العينة؛ لا تبع دراهم بدراهم وبينهما حريرة» ، وفي

رواية «أن رجلاً باع من رجل حريرة بمائة ثم اشترها بخمسين» . قال ابن

عباس عن ذلك: «دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة» ، وسئل ابن

عباس عن العينة يعني بيع الحريرة فقال: «إن الله لا يُخدع، هذا مما حرم الله

ورسوله» . وقد روى ابن بطة باسناده إلى الأوزاعي قال قال رسول الله صلى الله

عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع» [18] .

فواقع عقود التورق ينطبق على ما أشار إليه ابن عباس - رضي الله عنه -،

حيث إن بيع المرابحة تحت مسمى التورق إنما هو بيع ريالات بريالات بينهما

بيع مستندي لسلع لم يتم استلامها ولا تملُّكها، وإنما هي بيوعات مستقبلية في سوق

بورصة البضائع، لا يتم فيها قبض للسلع ولا تسليم، وإنما هي بيوع آجلة يتم

المضاربة فيها، فهي أشبه بالحريرة كما قال ابن عباس - رضي الله عنه -.

ثالثاً: بجانب ما روي عن الإمام أحمد في إحدى روايتيه بتحريم مسألة

التورق باعتبارها صورة من صور بيع العينة، فقد روي عن الإمام مالك - رحمه

الله - منع العينة بناء على عدم القبض من البيعة الأولى أو القبض الصوري الذي

يُتخذ وسيلة وذريعة إلى الربا [19] . وتحريم الوسائل من الأمور التي جاء الشرع

بها وقال بها الأئمة، فمن ذلك أن الشافعي - رحمه الله - يحرم مسألة «مد عجوة

(نوع من التمر) » ، و «درهم بمد ودرهم» ، وبالغ في التحريم خوفاً من أن

يتخذ حيلة على نوع من ربا الفضل، فالتحريم للحيل الصريحة التي يتوصل بها

إلى ربا النسيئة أولى من تحريم «مد عجوة» بكثير، فإن التحيل بمد ودرهم من

الطرفين على ربا الفضل؛ أخف من التحيل بالعينة على ربا النساء [20] الذي هو

الغاية التي تسعى إليها البنوك في تعاملها من خلال التعامل في شراء وبيع السلع في

سوق السلع العالمي (البورصة) المستقبلية، فإن مفسدة ربا الفضل في مسألة «مد

عجوة» أقل من مفسدة استخدام التورق لاستحلال ربا النسيئة. فلا يتعامل بالتورق

إلا مضطر إلى الاقتراض، فالمستغني عنه لا يثقل ذمته بزيادة في شراء السلع

مؤجلاً ثم بيعها بخسارة بدون ضرورة وحاجة، وقد روى أبو داود من حديث علي

بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن

بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمر قبل أن تدرك» . وقد أوضح ابن القيم أن

شراء المضطر للسلعة ثم بيعها لبائعها بأنها العينة، وإن باعها لغيره فهو التورق،

وإن رجعت إلى ثالث يدخل بين البائع والمشتري، فهو محلل الربا. والأقسام

الثلاثة يعتمدها المرابون وأخفها التورق، وقد كرهه عمر بن عبد العزيز وقال هو

آخية الربا [21] ، وتشبيه عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - بأن التورق هو للربا

بمثابة الحبل الموثق إلى وتد تُربط به الدابة، فالدابة لا يمكن لها الفكاك من هذا

الرباط، وكذلك التورق هو مربوط بالربا.

رابعاً: إن استخدام صيغة التورق بالشراء والبيع في سوق البورصة، مع

استخدام أسلوب المرابحة في تحديد مقدار الربا الذي سوف يؤخذ على المال الذي

سوف يتم إقراضه للأفراد والمؤسسات والشركات، أو اقتراضه من المودعين؛ إنما

هو حيلة لأخذ الربا وإعطائه، وتجويز ذلك يتناقض مع ما ورد من النهي عن

الحيل لاستحلال الحرام، وهذا التحايل الذي تمارسه البنوك فتح الطريق لأكل الربا

وتوسيع نطاقه بين المسلمين، ومعلوم أن الحيل تتناقض مع القاعدة الشرعية، وهو

ما يعرف بـ «سد الذرائع» ، فالشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل وسيلة ممكنة،

والمحتال يفتح الطريق بالحيل، واستخدام صيغة التورق في التعامل مع البنوك

من خلال البيع والشراء للسلع في سوق البورصة قد أدى إلى الوقوع في الحرام،

يقول ابن القيم: (ومن تأمل أحاديث اللعن وجد عامتها لمن استحل محارم الله

وأسقط فرائضه بالحيل كقوله: «لعن الله المحلل والمحلل له» ، و «لعن الله

اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنها» ، «لعن الله الراشي

والمرتشي» ، «لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهده) ، ومعلوم أن الكاتب

والشاهد إنما يكتب ويشهد على الربا المحتال عليه ليتمكن من الكتابة والشهادة

بخلاف ربا المجاهرة الظاهرة.... وآكل الربا مستحله بالتدليس والمخادعة، فيظهر

من عقد التبايع ما ليس له حقيقة، فهذا يشمل الربا بالبيع، وذلك يستحل الزنا باسم

النكاح، فهذا يفسد الأموال وذاك يفسد الأنساب) [22] ، وهذه العقود التي تمارسها

البنوك لا تعدو في واقع الأمر بأنها حيلة لاستحلال الاقتراض والإقراض بالربا باسم

البيع والشراء.

خامساً: من القواعد التي يقوم عليها التشريع الإسلامي: أن العبر بالمقاصد

والنيات، بدليل حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المشهور:» إنما

الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى «الحديث، ولهذا لا بد من النظر إلى

المقصد والغاية من صيغة التورق في تعامل هذه البنوك في حقيقة أمرها، وبموجب

التنظيمات التي تحكمها، وبموجب عقود تأسيسها، فإنها مبنية على أساس أن النقود

هي مجال عملها، فهي تتاجر في النقود وليست تتاجر بالنقود، كما يمارس من قِبَل

الأنشطة الاقتصادية الأخرى، فهذه البنوك تخضع في أعمالها لأنظمة ومعايير

البنوك المركزية، ومن تلك البنوك مؤسسة النقد التي تشرف على أعمال البنوك

وفق المعايير الدولية، ومن مجالات الأعمال التي تمارسها هذه البنوك والمبنية على

أسس ربوية: المتاجرة بالاستثمارات المالية في الأسواق الدولية، ومن ضمنها

المضاربة في سوق السلع المستقبلية (بورصة البضائع) ، حيث يتم احتساب

أرباح المعاملات التي تمارسها وفق ما أطلق عليه المرابحة في سوق السلع

المستقبلية وفق المعادلة الربوية في احتساب الأرباح، والمتمثلة في احتساب الربح

على أساس القيمة، والمدة الزمنية للتمويل، ومعدل الربح (نسبة الفائدة) .

ومن هنا نلاحظ أن صيغة التورق المعمول بها من قِبَل البنوك في توفير

التمويل لمن يحتاج إليه؛ إنما هي وسيلة لإيجاد المخرج لاستحلال الربا تحت

مسمى الشراء والبيع في السوق الدولية للسلع، فالقصد من بيع المرابحة للسلع التي

يتم التعامل بها في سوق المعادن الدولي (البورصة) ، ومن ثم بيعها لصالح

المشتري من البنك إنما قصد من ذلك استحلال الإقراض أو الاقتراض، يقول ابن

القيم - رحمه الله - فيما يتعلق بارتباط المقاصد بالأعمال: (ولعن اليهود إذ توسلوا

بصورة عقد البيع على ما حرمه عليهم إلى أكل ثمنه، وجعل أكل ثمنه لما كان هو

المقصود بمنزلة أكله في نفسه..... فعلم أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها

ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها، ومن لم يراع القصود في العقود وجرى

مع ظواهرها يلزمه أن لا يلعن العاصر (أي عاصر الخمر) ، وأن يجوز له عصر

العنب لكل أحد، وإن ظهر له أن قصده الخمر.... وقاعدة الشريعة التي لا يجوز

هدمها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات؛ كما هي معتبرة

في التقربات والعبادات، فالقصد والنية والاعتقاد يجعل الشيء حلالاً أو حراماً،

وصحيحاً أو فاسداً، وطاعة أو معصية، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبة أو

مستحبة أو محرمة، أو صحيحة أو فاسدة) [23] ، وقال في موضع آخر: (ولهذا

مسخ الله اليهود قردة لما تحيّلوا على فعل ما حرمه الله، ولم يعصمهم من عقوبته

إظهار الفعل المباح لما توسلوا به إلى ارتكاب محارمه، ولهذا عاقب أصحاب الجنة

بأن حرمهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها مصبحين إلى إسقاط نصيب المساكين، ولهذا

لعن اليهود لما أكلوا ثمن ما حرم الله عليهم أكله ولم يعصمهم التوسل إلى ذلك

بصورة البيع، وأيضاً فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها، فإنها

بعد الإذابة يفارقها الاسم وتنتقل إلى اسم» الودك «، فلما تحيلوا على استحلالها

بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك) [24] ، وهذا هو واقع ممارسة البنوك لصيغة التورق

بالشراء والبيع، وتغير مسمى الربا (الفائدة) باسم الربح في المعاملات التي

تجريها البنوك لا ينزع عنها صفة الربا، وأن ما يؤخذ من ربح هو ربا على المال

المقرض، وكذا ما يعطى على المال المقترض؛ وإن تغيرت المسميات، وإن عمل

عقود باسم بيوع التقسيط أو المرابحة أو شراء السلع وبيعها في سوق السلع

المستقبلية (البورصة) لا يغير من طبيعة التعامل ومقصده وغايته.

إن النتيجة التي يمكن التوصل إليها في نهاية هذه الدراسة هو أن ما يتم من

استحلال للربا وتصويره للناس بأنه تورق جائز شرعاً، وأن ما يؤخذ من ربا تحت

مسمى المرابحة أو بيوع التقسيط وإطلاق المسميات كالتورق المبارك، وتيسير

التمويل، وبرنامج نقاء، وغير ذلك من المسميات؛ لا يغير من حقيقة هذه الصيغ

من أن التعامل هو تعامل ربوي محرم لا يجوز للمسلم التعامل به؛ بأي صورة من

صور التعامل التي تسعى البنوك إلى تصويرها للناس بأنها صيغ تتوافق مع

الشريعة الإسلامية، حتى لو تم الادعاء بأنها قد أجيزت من اللجان الشرعية التي

شكلتها تلك البنوك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015