مجله البيان (صفحة 412)

من قضايا العلم والتعلم (2) حديث عن البديل

من قضايا العلم والتعلم

حديث عن البديل

(?)

د. عبد العزيز القارئ

من الذي يجب عليه أن يتولى تهيئة مجتمع مصغر داخل المجتمع الأكبر،

حتى يأوي إليه طلاب علوم الشريعة؟ إنهم العلماء الربانيون. إذا التف حولهم

أولئك الفارُّون بدينهم الباحثون عن النجاة وجدوا الكنف الطيب الحنون النابض

بالحياة الحقيقية، فينشئون فيه حتى يقوى عودهم، وينبت ريشهم، ويتهيئون

للطيران.

لقد جرت العادة أن كنف هؤلاء العلماء الربانيين يُخرج طيوراً (أبابيل) حتى

إذا تكاثرت فوجاً إثر فوج، انقضت على (أبرهة) وجيشه وخيله ورَجِله قبل أن

يبلغ الكعبة، إن (أبرهة) يعرف جيداً هذه العادة.

نعم، هذا هو شأن العلماء الربانيين، وتلك هي عادتهم، ولكن أين هم؟ !

أحياناً تكون العقوبة الشاملة ليست خسفاً ولا مسخاً ولا طوفاناً ولا صيحة -

والعياذ بالله - بل تكون حرماناً من أسباب النجاة، فتنظر إلى المجتمع المتمرد الذي

عم فيه الفساد والتلف فلا تجد فيه عالماً ربانياً واحداً، وربما ترى حشوداً من

العلماء، لكنهم ليسوا من ذلك الصنف الرباني الذي يربي الأمة بعلمه ودعوته.

ترى أصنافًا من العلماء شتى، بعضهم - بل أسوؤهم - أولئك الذين يضمهم

الحاكم إلى موكبه، فيمشون خلفه، يطبلون ويزمرون مع المطبلين والمزمرين

ويلهجون بحمد الطاغوت مع اللاهجين، ويا لَشناعة جريمة هؤلاء المعممين! ،

الذين يفعلون ذلك وهم يلبسون جبة العلماء، أي ضرر فادح يلحقونه بثلاثة مقامات: مقام الدين، ومقام العلم، ومقام الأمة؟ !

قال واحد من هؤلاء لسيده: (لو كان لي من الأمر شيء لجعلتك في مقام

الذي لا يُسأل عما يفعل!) . (علماء الحاشية) هؤلاء ينتهون أسوأ نهاية، ينتهون

إلى سخط الله وسخط الناس، وإذا سلِمت الأمة من شرهم فهو أمر عجيب، أما هم

فما أبعدهم عن النجاة والسلامة! ، أما سمعت كيف تبرأً النبي - صلى الله عليه

وسلم - من هذا الصنف من العلماء:

عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

قال: (سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد عليّ الحوض) [1] .

وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن ارتياد أبواب السلاطين فتنة فقال: (من

سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلاطين افتتن) [2] .

ولذلك كان السلف يحذر بعضهم بعضاً من ذلك، قال عبد الله بن مسعود -

رضي الله عنه -: (إن على أبواب السلاطين فتنًا كمبارك الإبل، والذي نفسي بيده لا تصيبون من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينكم مثله - أو قال: مثليه) ؛ هذا لأن الغالب أن السلطان يغلب من يرتاده على دينه فيهلكان معاً، لكن قلة من العلماء يغلبون السلطان بقوة الحق الذي يصدعون به عنده، فيكون ارتيادهم لهؤلاء بركة عليهم، وبركة على الأمة، ولذلك كان بعض أئمة السلف يخالطون الخلفاء ويجالسونهم ويؤثرون فيهم بعلمهم وقوتهم بالحق، فمثلاً:

أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري من فقهاء الأمة الكبار - جالس

خلفاء بني العباس وعمل في سلكهم، بينما شيخه الإمام الرباني أبو حنيفة النعمان

ابتعد عن أبوابهم، بل ورفض بشدة مخالطتهم، والعمل في سلكهم، وكل من هذين

الإمامين كان بركة على الأمة بما فعل؛ فأبو يوسف - رحمه الله - أبرز من

صحب من خلفاء بني العباس (هارون الرشيد) ومَن مثل الرشيد من ملوك المسلمين؟!

قال الحافظ الذهبي - في ترجمته في (السير) : كان من أنبل الخلفاء وأحشم

الملوك، ذا حج وجهاد وغزو وشجاعة ورأي.

وقال: وكان يحب العلماء ويعظم حرمات الدين، ويبغض الجدال والكلام

ويبكي على نفسه ولهوه وذنوبه، لا سيما إذا وُعظ [3] .

اقرأ كتاب (الخراج) لأبي يوسف حتى تعلم ماذا صنع هؤلاء العلماء في

مجالستهم للخلفاء ومصاحبتهم للملوك، أما إذا تعمقت في دراسة آثارهم وبركاتهم

فاطلعت على شبكة القضاء القوية الرائعة في صدر الدولة العباسية والتي كان أبو

يوسف من مؤسسيها ورعاتها - فإنك حينئذ مطلع أكثر وأكثر على البركة التي

أصابت الأمة من مصاحبة أبي يوسف وأمثاله من العلماء للملوك والخلفاء.

ومن المحدثين نجد أنموذجين: (سفيان الثوري) ، ظل مقاطعاً لمجالس الخلفاء

هارباً منهم ومن العمل في سلكهم، بينما الحافظ (محمد بن مسلم بن شهاب الزهري) دخل على خلفاء بني أمية وجالسهم، جالس عبد الملك بن مروان، وهشام بن عبد

الملك، وعمر بن عبد العزيز، ويا ليت كل الملوك مثل هؤلاء!

كان الزهري يأخذ من هؤلاء الخلفاء الأعطيات ويوزعها على الناس، ولا

ينتظر حتى يعطونه، يظل يسد حاجات الناس ويستدين، حتى إذا ركبته الديون

أخذ منهم فسد به أفواه الدائنين، ولذلك فإن أخذه لأعطيات الملوك لم يؤثر على

صلابته في الدين، ولا منعه من الصدع بالحق، والعادة أن من يأخذ لا يتكلم، لكن

الزهري لم يكن يأخذ لنفسه.

ذكر الذهبي في (السير) أن الخليفة هشام بن عبد الملك قال للزهري: مَن

الذي تولى كبره منهم؟ فقال: هو عبد الله بن أُبي.. قال: كذبت هو علي بن أبي

طالب، فقال الزهري: أنا أكذب لا أبا لك! فوالله لو نادى منادٍ من السماء إن الله

أحل الكذب ما كذبت، حدثني سعيد وعروة وعبيد وعلقمة بن وقاص عن عائشة:

أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي [4] .

علماء السلف الربانيون إذن كانوا على مسلكين في هذا الصدد، وكلهم كان

نفعه للأمة عظيماً، لكن الذين اختاروا البعد عن أبواب السلاطين والخلفاء كانوا

أعظم أثراً؛ لأنهم تفرغوا لتربية الأمة، أمثال: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي،

وأحمد، وسفيان الثوري، ومن بعدهم: ابن تيمية، والعز بن عبد السلام،

وغيرهم.

إن وظيفة (العالم الرباني) وظيفة (استراتيجية) أساسية، مصيرية،

ضرورية، لا حياة للأمة بدونها، وهي تتطلب قدراً كبيراً من استقلال (العالم) ، ولذلك أبى هؤلاء الذين سميناهم من (الأئمة الربانيين) أن يتولوا شيئاً من الأعمال الحكومية، لأنهم انتدبوا أنفسهم لتلك الوظيفة (الاستراتيجية) التي هي أجل أثراً وأعظم بركة.

إن أي ثمن يقبضه العالم الصادق لمصلحة الأمة مقابل التخلي عن هذه

الوظيفة (الاستراتيجية) - لا يمكن أن يبرر هذا التنازل الخطير، أو يقلل من أثر

هذه الخسارة الفادحة، وربما ظن هذا العالم الصادق أن (المصلحة) التي حققها

للمسلمين تبرر تخليه عن مهمة (العالم الرباني) لو كان أمثال هؤلاء العلماء

الصادقين ذوي (كفاية) لفتحوا أعينهم على حقائق الأمور ومجريات الحوادث في هذا

العصر - عصر الفتنة المبرمجة - ولعلموا أن الثمن الذي دفعوه وهم لا يشعرون

ثمن فادح لا تساويه تلك المصالح الجزئية القليلة التي حققوها، مصالح في الغالب

هزيلة لا يمكن أن توصف بأكثر من فُتات يلقي به أولئك المعربدون في أنحاء العالم

الإسلامي، لقد دفع أولئك العلماء من مصلحة الإسلام والمسلمين أضعاف ما أخذوا،

وذلك بتخليهم عن (الوظيفة الاستراتيجية) تماماً كما قال عبد الله بن مسعود (رضي

الله عنه) .

وهذا المآل مؤكد في ظروف مثل هذه التي يعيش فيها المسلمون اليوم، في

معظم البلاد الإسلامية هناك (استراتيجيات) وضعها المخططون والمبرمجون لا

مكان فيها لهذا الدين الذي يحمله هؤلاء العلماء، ولذلك فإن هذه الحكومات لن تسمح

لهم بأكثر مما تسمح به تلك (الاستراتيجيات) الموضوعة سلفا وكل الجهود العقيمة

التي سيبذلها هؤلاء العلماء المساكين ستذهب أدراج الرياح؛ لأنها ستظل مكبلة

موثقة بالأغلال.

مع أن كثيراً من هؤلاء العلماء لا يتوفر فيهم شرط الكفاية الذي نص عليه

الفقهاء وجعلوه شرطاً في كل من يتولى شئون المسلمين، ومعناه الحنكة والخبرة

السياسية، والدهاء والذكاء السياسي، فإدارة شئون الأمة ليست كالمداولة في مسألة

فقهية.

إذا أردنا أن نفهم تماماً معنى (الكفاية) فلنستحضر أنموذجين:

أحدهما لواحد من ملوك المسلمين العظام: إنه الخليفة العباسي أبو جعفر

المنصور، والآخر لواحد من أئمة الفقه الكبار من الربانيين: إنه أبو حنيفة النعمان

بن ثابت، كلاهما كان يتمتع بحنكة سياسية رفيعة، ودهاء سياسي عجيب، وتمت

المواجهة: المنصور مع أنه ملك فقد كان عالماً وفقيهاً ويعرف ما معنى أن يظل

مثل أبي حنيفة - رحمه الله - خارج أغلال الدولة، معناه أنه سيربي الأمة،

وصمم أن يولي أبا حنيفة القضاء، لكن أبا حنيفة رفض، هو فقيه وإمام من أئمة

العلم، لكنه مع ذلك كان سياسياً بارعاً، إذن فهو يعلم ما معنى أن يقبل بوضع غل

المنصور في عنقه، معناه أن يتخلى عن مهمته الأساسية (التربية) ، صمم المنصور، وصمم الإمام، وتحطم عناد الخليفة أمام صلابة الإمام؛ فأظهر انهزامه بسجن

الإمام.

الحاكم دائماً كلما أحس بالهزيمة أمام العالم الرباني فإنه يسجنه، وربما يقتله،

إنها سُنة قديمة، تواصوا بها!

قد يقرأ كلامي هذا بعض المتعجلين من المتفقهين فيفهم منه أنه دعوة عامة

للشباب المتدين لمقاطعة (الوظائف الحكومية) والانعزال عن الحياة، كما يدعوهم

إلى ذلك بعض أهل البدع من (خوارج) هذا العصر أو (دراويشه) .

هذا تفكير خيالي غير فقهي ولا شرعي. أنا لا أتكلم عن الشباب ولا غير

الشباب من طلبة العلم، أنا أتكلم عن الأئمة، عن العلماء الذين يمكن أن يؤدوا مهمة

العالم الرباني، علماء يفترض أن يقودوا الأمة ويوجهوها، ويفترض أن يمسكوا

بزمام الأمور، ويحتضنوا المسلمين.

فالمقصود أن طلاب علوم الشريعة وشبابها إن لم يجدوا عالماً ربانياً يلجئون

إلى كنفه، فكيف يفرون من ضغوط المجتمع الفاسد من حولهم؟ .

الهياكل الرسمية للتعليم الشرعي:

هناك في الساحة تعليم ديني، له هياكله الرسمية ومؤسساته الحكومية، هذا

التعليم الرسمي لو رُزق إشرافاً صادقاً وتولاه أناس ذوو عدالة وكفاية - يمكن أن

يكون له أثر عظيم في مجال التعلم والتعليم، وفي مجال توجيه الشباب واستقطاب

طاقاتهم وطموحاتهم، وذلك بسبب الإمكانات الضخمة التي يمكن أن تتوافر له، لكن

المشاهَد أن هذا التعليم (الرسمي) فاشل، إنه لا يخرّج - في الغالب - إلا موظفين،

وإن خرّج أحداً من العلماء فإنه يخرج أفواجاً غير مؤثرين، كما أنه فاشل في إشباع

طموحات الشباب المسلم، أو استقطاب طاقاته المتفجرة حيوية وعنفواناً، إنه تعليم

لا مفعول له، منزوع الريش، غير قادر على الطيران، ومن ينشأ في حِضنه

أعجز عن الطيران.

وفي ظل تعليم بهذا الحال ليس غريباً أن تفسد مقاصد المتعلمين، بل ليس

مستبعداً أن توضع مناهج التعليم في ظل تلك المقاصد الفاسدة، فالمشاهَد اليوم أنه

حتى (المؤسسات الدينية الرسمية) فصّلت مناهجها لتخرج موظفين ليس أكثر،

الوظيفة أولاً وآخراً، ولذلك فشلت هذه المؤسسات الرسمية في تخريج علماء

عاملين مؤثرين، بل وفشلت حتى في إشباع تطلعات الشباب، وامتلاك الزمام

لتوجيههم وقيادتهم، ولهذا فإن أكثر الحركات البدعية في صفوف هؤلاء الشباب

والتوجهات التي يسمونها (متطرفة) إنما خرجت من تحت عباءة تلك الهياكل

الرسمية.

لو كانوا يفقهون لأدركوا أن التعليم الرسمي هو (جثة ميتة) أشد خطراً منه

وهو كيان حي وقوي!

وراح المتفقهون يبحثون عن (البديل) ، فتخبطوا في ليلٍ بهيم، والطريق

وعرة كثيرة المزالق، طريق حفت بالمكاره؛ فوقع بعض أولئك المتفقهين المساكين

فريسة (البدع) والأفكار البعيدة عن مناهج السلف، وفريسة المسالك الشوهاء

الناقصة التي لا توصل سالكيها إلا إلى مزيد من الضياع، وهذه نتيجة لازمة، لأن

الطريق التي وصفتها لا يمكن سلوكها بأمان إلا مع رائد خرِّيت [5] .

*يتبع *

طور بواسطة نورين ميديا © 2015