مجله البيان (صفحة 4106)

الافتتاحية

رسالة من القلب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

يقف الإخوة الأفغان في خنادقهم ثانية لمواجهة الحرب الشرسة التي شنتها

عليهم هذه المرة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها؛ ومن حكمة الله تعالى أن

جعل أرضهم موطئاً لملاحم كثيرة وطويلة جداً؛ فبعد هزيمة بريطانيا العظمى مرات

متتالية، ثم الاتحاد السوفييتي البائد، جاءت إليهم أمريكا بطغيانها وجبروتها،

والفرق في هذه الحرب عن الحروب الأولى أن العالم كله بشرقه وغربه اجتمع

عليهم هذه المرة، وراح الناس كل الناس يتحدثون عن سقوطهم وهزيمتهم، وشكل

الحكومة الأفغانية القادمة قبل أن تبدأ الحرب..! ! فكانت من البيان هذه الرسالة.

أيها الإخوة الأفغان:

إننا نعلم أنكم تعيشون أياماً قاسية عصيبة، وأنتم الآن في شغل وأي شغل!

وليس من الحكمة أن نلقي عليكم المواعظ، ونظهر أمامكم بمظهر المشيخة

والأستاذية، وأنتم تبيتون على أصوات الانفجارات والقنابل العنقودية والصواريخ

المدمرة، ثم تصبحون على حساب الخسائر وكفكفة الجراح..! ولكن عذرنا أن الله

تعالى أوجب علينا محبتكم فيه، وأن نتألم لألمكم ونحزن لحزنكم، ومن واجبنا أن

نخلص النصيحة لكم بمحبة وإشفاق، لعلَّ ذلك يكون زيادة في تثبيتكم والشدّ من

أزركم، وهذا خطاب لنا ولكم ولجميع قرائنا. نسأل الله تعالى أن يستعملنا جميعاً

في طاعته، وأن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخير، مغاليق للشر.

أولاً: ففروا إلى الله:

قال الله تعالى: [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ] (آل عمران:

126) . وقال تعالى: [وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]

(الأنفال: 10) . وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ

وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: 7) .

فعليكم بالعودة الصادقة إلى الله تعالى فما خاب من استعان به عز وجل،

[فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ] (الذاريات: 50) ، والمنصور من نصره

الله تعالى. قال الله تعالى: [إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا

الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ] (آل عمران: 160) ،

وفتشوا في قلوبكم، وأعلنوها توبة صريحة صادقة من كل اعتقاد أو عمل أو قول

لا يرضي الله تعالى، وليس موافقاً لشرعه، وأخلصوا له العمل وحده لا شريك له،

وأفردوا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بالمتابعة؛ فإن ذلك من أعظم العدة،

وأقوى العتاد. قال تعالى: [فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ

يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً] (الكهف: 110) .

وإنّ من أعظم ما ينبغي تجريد النية له الجهاد لإقامة الدين ورفع لواء التوحيد

. قال الله تعالى: [وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ] (الأنفال:

39) ، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم،

والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه؛ فمن في سبيل الله؟ فقال: «من

قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» [1] .

ثانياً: إياكم والقنوط:

حذار.. حذار من اليأس والقنوط، مهما طال الطريق أو تكالب الأعداء؛ فإن

ذلك بداية السقوط والهلاك أعاذكم الله من ذلك، وأهل الإيمان الراسخ يملكون يقيناً

عامراً لا تهده الفتن ولا تزلزله الأعاصير.

إنّ الهزيمة النفسية من أشد وأنكى أنواع الهزائم، فترى المرء يسقط قبل أن

يبدأ المعركة. كما أن الانتصار النفسي من أعظم أنواع النصر، ولهذا ترى العبد

المؤمن يُقبل على الله تعالى بنفس واثقة مطمئنة يرجو ما عند الله والدار الآخرة،

يحدوه قول الله تعالى: [قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ

بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ]

(التوبة: 52) .

والثبات عند الفتن من أعظم الأدلة على صدق الإيمان، قال الله تعالى: [الم

* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ

فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] (العنكبوت: 1-3) . وقال تعالى:

[وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ

اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] (آل عمران: 141 - 142) .

إنّ طريق الجهاد في سبيل الله طريق طويل لا يقوى على تحمل تبعاته إلا

الرجال الأشداء ذوو القلوب المؤمنة، والنفوس الكبيرة، والهمم الشماء. أما

النفوس الهزيلة، والقلوب الخاوية؛ فإنها تتراجع في بداية الطريق، [لَوْ كَانَ

عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ] (التوبة: 42) ..

نعم كثيرون أولئك الذين تدفعهم العاطفة لخدمة هذا الدين، لكن قلَّة قليلة منهم

تتماسك وتثبت عند المحن، وتتجرع الآلام والمصاعب دون خور أو ضعف أو

قنوط، وهنا يتجلى أثر الإيمان الحق في النفوس الأبيّة، والقلوب المخلصة. قال

الله تعالى: [مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ

وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 23) . وقال تعالى: [وَكَأَيِّن

مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا

اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا

وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ

الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ] (آل عمران: 146-148)

ونصر الله عز وجل لا يتنزل على أوليائه إلا بتحقيق أمرين عظيمين هما:

الصبر، والتقوى؛ فهما أعظم بواعث النصر والتمكين. قال الله تعالى: [بَلَى إِن

تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ

مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ

اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ] (آل عمران: 125-126) ، وقال تعالى: [لَتُبْلَوُنَّ فِي

أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى

كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ] (آل عمران: 186) .

والصبر ليس موعظة تتلى، أو خطبة تنتفخ لها الأوداج، بل هي عقيدة

راسخة ضاربة بأطنابها في أعماق القلب، وتثمر بإذن الله إقبالاً صادقاً على البذل

والعطاء، والجود بالنفس والنفيس ابتغاء وجه الله.

ثالثاً: فلا تخافوهم:

لا يهولنكم ذلك الجمع الدولي، ولا يهولنكم تواطؤ أمم الأرض عليكم، ولا

تهولنكم أمريكا بقواتها العسكرية وترسانتها الجوية؛ فإن قوَّتهم لا تساوي شيئاً أمام

قوة الله تعالى جبَّار السماوات والأرض، ولا يهولنكم ذلك الإرجاف الإعلامي الذي

طغى ضجيجه في كل مكان؛ فإنما ذلك من تخذيل الشيطان وأوليائه. قال الله تعالى:

[الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا

حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا

رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ

وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران: 173-175) . وقال تعالى: [وَإِذْ

زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا

تَرَاءَتِ الفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي

أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ العِقَابِ] (الأنفال: 48) .

وإنَّ لكم في هود عليه الصلاة والسلام قدوة حسنة؛ حيث قال الله تعالى على

لسانه: [قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي

جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ

بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (هود: 54-56) .

وإننا على يقين راسخ بأن النصر متحقق لهذه الأمة إن عاجلاً أو آجلاً. قال

الله تعالى: [سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ] (القمر: 45) ، وقد يتأخر النصر

لحكمة يريدها الله تعالى؛ فقد قال عز وجل: [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ

قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ]

(يوسف: 110) . وقال تعالى: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ

خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا

مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ] (البقرة: 214) .

وكيف تنهزم أمة يؤمن رجالها بأن ريح الجنة يفوح عبيره بين الصفوف،

فيتتبعون الموت مظانه مقبلين غير مدبرين..؟ !

وكيف تنهزم أمة يؤمن رجالها بأن استشهادهم في سبيل الله تعالى هو طريق

الحياة والعزة والتمكين..؟ !

نعم ربما يحرز الكفر نصراً على المسلمين، ولكنه نصر بارد مؤقت، ومن

حكمة الله تعالى أنه قد يقدر على بعض المؤمنين انكساراً في وقت ما من الأوقات،

ليبلوهم بذلك، كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبه في غزوة أحد [2] ، ثم

يُعدِّهم لنصر قادم بقوته وتأييده، وفي قصة صاحب الأخدود مثل عظيم؛ إذ إن قتله

وتحريقه أدى إلى انتشار عقيدته.

إنَّ أول مراحل النصر: الانتصار على النفس، وطرد الخوف من القلب؛

فما دب الخوف في قلب إلا تصدع كيانه، وتزلزلت أركانه، وألبسه الله لباس الذل

والهوان. والخوف الحابس عن العمل آية من آيات النفاق؛ أعاذنا الله من ذلك.

قال الله تعالى: [أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ

كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى

الخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً]

(الأحزاب: 19) .

وكل كريهة ترفع، أو مكرمة تكتسب لا تتحقق إلا بالشجاعة. وبقوة القلب

يقتحم المرء الأمور الصعاب، وبقوة القلب يتحمل أثقال المكاره، وبقوة القلب تنفذ

كل عزيمة أوجبها الحزم والعدل [3] .

ولن يُستلَّ الخوف من القلب إلا بصدق اليقين والإيمان. قال تعالى: [وَأَنَّا

لَمَّا سَمِعْنَا الهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً] (الجن: 13) .

وأهل التوحيد الخالص هم أعظم الناس قوة وثباتاً، وكيف يخاف من أمَّنه الله

تعالى وهداه؟ ! قال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: [وَكَيْفَ

أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ

الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ

لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ] (الأنعام: 81-82) ؛ ولهذا ترى المؤمن يقبل على الله

تعالى بقلب ثابت ثبوت الجبال الرواسي لا يخاف إلا الله عز وجل، وإن الجبن آفة

سائدة تنخر القلوب المريضة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه في

دعائه قائلاً: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل

والجبن ... الحديث» [4] .

فما وجفت تلك القلوب ولم تكن ... كأخرى لها من هدة الرعب زلزال

رجال رسا الإيمان ملء نفوسهم ... فلا الجبن منجاة ولا البأس قتَّال

ولا الموت مكروه على العز ورده ... ولا العيش مورود إذا خيف إذلال

تداعوا فقالوا: حسبنا الله إنه ... لما شاء من نصر الهداة فعَّال

لقد خلع الخوف قلوب كثير من الناس في هذا الزمان، وارتعدت فرائصهم

جبناً وهلعاً، لِمَا رأوا من اجتماع الحشود الكافرة، وهم يبعدون عنهم مفاوز؛ فهل

يمكن أن تنتصر أمة شلّها الخوف والهلع بهذه الصورة المحبطة..؟ ! وصدق

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «شرُّ ما في رجل: شح هالع، وجبن

خالع» [5] .

رابعاً: ادعوني أستجب لكم:

إن الدعاء من أعظم الأسلحة التي تظهر بركتها عند التحام الصفوف واحتدام

القتال؛ فهو استغاثة بمن لا يُردُّ قضاؤه، ولا يهزم جنده، وقد أمر الله عز وجل

باللجوء إليه في مثل هذه المواطن خاصة. قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا

لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الأنفال: 45) . وقال تعالى:

[أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ] (النمل: 62) ، وقد كان من

هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يستغيث بالله تعالى، ويستجير به بإلحاح،

ويطلب منه المدد والعون، وخاصة عندما يحمى الوطيس؛ ففي غزوة بدر قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبَّة: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك،

اللهم إن تشأ لا تعبد بعد اليوم» . فأخذ أبو بكر بيده، فقال: حسبك يا رسول الله!

ألححت على ربك.. الحديث « [6] ، وفي رواية مسلم: فاستقبل نبي الله صلى الله

عليه وسلم القبلة، ثم مدَّ يديه فجعل يهتف بربه:» اللهم أنجز لي ما وعدتني،

اللهم آت ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في

الأرض «فما زال يهتف بربه مادّاً يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه من

منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال:

يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل:

[إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ]

(الأنفال: 9) ، فأمده الله بالملائكة [7] .

وإن من أعظم النصرة التي يحتاجها الإخوة الأفغان دعاء إخوانهم المسلمين في

مشارق الأرض ومغاربها، في خلواتهم وسجودهم، وفي آخر الليل، وعند الإفطار،

ونحوها من مواطن وأوقات الإجابة.

خامساً: لنستثمر الحدث:

على العلماء والدعاة والمصلحين في جميع أنحاء العالم أن يستثمروا هذه

النازلة في استنهاض الهمم والطاقات، وإحياء الغيرة في النفوس؛ فتتابع الفتن

وتكالب الأعداء يمكن أن يكون محبطاً مقعداً عن العمل، ويمكن أن يكون بإذن الله

من أعظم الأسباب المحركة للنفوس، المستحثة للعمل والمدافعة إذا أُحْسِنَ استثمارها

وتوظيفها لخدمة الأمة. ونعني بالاستثمار: تشجيع جميع المسلمين كبيرهم

وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم لبذل المعروف والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر، حتى المقصرين بل والعصاة منهم، وها هو ذا أبو محجن

الثقفي يُسجَن ويقيد لشربه الخمر في معركة القادسية، ولكن الغيرة على الدين وأهله

تأججت في صدره فيبلي بلاءً حسناً في نصرة الدين وقتال الكافرين [8] .

ومن الاستثمار أيضاً: إحياء وعي الأمة بحقيقة المعركة التي توجه ضدها من

النصارى وأنصارهم، والملحدين وأشياعهم، وبيان سبيل النهوض والعزة، وأنه

بالعودة الصادقة إلى دين الله تعالى.

ومن الاستثمار أيضاً: تذكير الدعاة والصالحين بوجوب رصِّ الصفوف،

والتعاون على البر والتقوى، وعلاج الخلافات اليسيرة بعلم ومحبة بعيداً عن

التقاطع والتهارش الذي آذى الأمَّة أذى عريضاً.

سادساً: لا يضرهم من خذلهم:

أحزن الغيورين كثيراً إرجاف المخذلين، وربما كان أثرهم في النفوس أشد

إيلاماً من العدو الكافر نسأل الله السلامة كما قال الشاعر:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على الحر من وقع الحسام المهنَّدِ

لكن المؤمن الحق لا يفتُّ ذلك في عضده؛ فهو واثق الخطى، خالص التوكل،

عظيم الثبات، يلهج لسانه بقوله الله تعالى: [فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ

هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ] (التوبة: 129) ، وقوله تعالى: [يَا

أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ] (الأنفال: 64) .

إن الاستسلام لإرجاف الناس، وتخذيل المخذلين يجر الإنسان إلى حضيض

الانتكاس، ويسقطه في دركات الهزيمة، وقد حفظ الله تعالى أولياءه من ذلك؛ فقد

صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:» لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على

الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك « [9] . والناظر في سير

الأنبياء عليهم أزكى الصلاة والسلام يجد أنهم ثبتوا على الحق، وعضوا عليه

بالنواجذ، على الرغم مما أصابهم؛ فها هو ذا أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه

الصلاة والسلام يصدع بالحق، ويعلن براءته من قومه ومن معبوداتهم. قال الله

تعالى: [قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ

مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً

حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ] (الممتحنة: 4) .

سابعاً: من القلب إلى المجاهدين القدامى في المعارضة الشمالية:

لقد وقف المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها معكم عندما رفعتم راية

الجهاد في سبيل الله لمواجهة الشيوعيين، وكان الناس ينظرون إليكم بإكبار وإعزاز؛

فالتضحيات التي قدمتموها كانت تضحيات جليلة أحيت في الأمة علم الجهاد. ثم

لمَّا حصل ما حصل من التنابذ والصراع بين الفصائل الجهادية ضاقت صدور

المسلمين بذلك؛ فثمرة الجهاد كادت أن تصبح سراباً..! وازداد ضيقهم لمَّا كان

بعض المنتسبين إلى الجهاد يسقطون في لعبة التوازنات السياسية ويتحالفون مع

الشيوعيين تارة ومع الغرب تارة أخرى، وكان يصدر من بعضكم كلاماً شديداً في

حق هؤلاء [10] ، ثم دارت الأيام وحصل التنازع والتهارش، وتحزبت الجموع هنا

وهناك لأغراض لا تخفى عليكم.. ولكن ما كنا نظن أن الجسد الواحد سيصيبه هذا

الشرخ النازف؛ فها هم بعض المجاهدين القدامى (! !) يعودون لقتال إخوانهم،

لتحقيق مكاسب دنيوية حزبية وقبلية وشخصية رخيصة..!

على رِسْلكم أيها الناس! أليس من المخجل جداً أن يضع المسلم يده بيد

الأعداء لحرب إخوانه..؟ ! ألم تقاتلوا تلك السنين المتتابعة، وتضحوا تلك

التضحيات المشهودة من أجل إخراج الشيوعيين من دياركم؟ ! فما بالكم الآن

تقاتلون المسلمين؟ ! أتطيب نفوسكم وأنتم ترون تلك الحشود الزاحفة تجتمع لقصف

المسلمين بالقنابل الانشطارية والعنقودية، وتدمير ديارهم وأهليهم بالصواريخ

والطائرات المدمرة باسم الحرب على (الإرهاب الإسلامي) الذي كنتم تعتزون به

فيما مضى من سالف الأيام..؟ !

لقد عطرت دماؤكم ربى أفغانستان وجبالها لإخراج الشيوعيين.. ولكنكم ها

أنتم تنكصون على أعقابكم وتعودون ثانية لإدخالهم أرضكم وتسليمهم أمركم..! !

نعم.. اختلفتم مع إخوانكم وصارت بينكم محن ومنازلات لا ترضينا، وهَبُوا

أنهم أخطؤوا في حقكم أو ظلموكم، أيكون ذلك مسوغاً لظلمهم والجور عليهم؟ !

أيكون ذلك مسوغاً لمناصرة الكافرين عليهم؟ ! ألا تقرؤون قول رسول الله صلى

الله عليه وسلم:» المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يُسْلِمُه « [11] ؟! إنهم إخوانكم

مهما اختلفتم معهم بنص القرآن الكريم؛ فالله تعالى وصف الطائفتين المتقاتلتين

بأنهم إخوة ما دام الإيمان يجمعهم [12] . أتضيع تلك الثوابت الشرعية المسلَّمة في

دين الله وتتحالفون مع العدو الكافر لتصفية إخوانكم وإبادتهم عن بكرة أبيهم؟ ! آلله

يرضى لكم ذلك..؟ ! أين المروءة ومكارم الأخلاق فضلاً عن العقيدة والدين..؟ !

يا سبحان الله! ألا تقرؤون القرآن..؟ ! إننا نناشدكم بالله العلي العظيم أن

تقرؤوا قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ

خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا

لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ] (آل عمران: 118) ، وقوله تعالى: [لاَ تَجِدُ قَوْماً

يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ

أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ

جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ

حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ] (المجادلة: 22) . وقوله تعالى:

[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] (المائدة: 51) .

أتظنون أن الأمريكان والروس وأعداء الملَّة يقاتلون من أجلكم ولتحقيق

أهدافكم، أو أنهم راضون عنكم أو يحبون نصرتكم..؟ ! لا والله؛ فإنَّ صدورهم

تغلي بالحقد عليكم وعلى إخوانكم كغلي المرجل، ولكنها تستخدمكم لأهداف رخيصة

مؤقتة، حتى إذا تحققت مآربهم رموكم بأقدامهم الحاقدة كما رموا غيركم..! إننا

نربأ بكم أن تكونوا كما قال الشاعر:

قطيع يساق إلى حتفه ... ويمضي ويهتف للسائقين

إن معاشر المسلمين في أصقاع الأرض يناشدونكم من كل قلوبهم.. فاتقوا

الله.. ولا تنظروا إلى خلافات حزبية أو قبلية عارضة، ولا إلى مصالح دنيوية

زائلة.. ولكن انظروا إلى دينكم فاحفظوه، وانظروا في أيديكم أين تضعونها..!

إننا نعلم أن بعض ذوي النفوس المريضة والأهواء الوضيعة قد جرّوكم لمثل

هذه الكبوة وراحوا يتاجرون بشعاراتكم، وصدق الله تعالى: [فَتَرَى الَّذِينَ فِي

قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ

بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ]

(المائدة: 52) ، فالله الله..

نرجو الله عز وجل أن تكونوا صادقين مع الله، وأن تؤوبوا إلى الحق؛

فالعودة إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ووالله الذي لا إله إلا هو الرحمن

الرحيم لن ينفعكم شيء من أعمالكم إذا كان الدافع لها مغنماً زائداً من مغانم الدنيا،

[مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا

مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم

مَّشْكُوراً * كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً]

(الإسراء: 18-20) .

أيها المسلمون: اعقدوا قلوبكم وأيديكم بعضها ببعض؛ فهذا هو طريق النصر

بإذن الله [وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ] (الأنفال:

46) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015