مجله البيان (صفحة 1785)

في إشراقة آية

[وخلق الإنسان ضعيفاً] [1]

د. عبد الكريم بكار

الإنسان هذا المخلوق العجيب هو صنعة الله تعالى المحكمة الدقيقة هذا الإنسان

الذي يبدو للوهلةالأولى في منتهى البساطة مشتمل على كل أشكال التعقيد، إنه يبدو

قوياً مخيفاً مع أنه في حد ذاته ضعيف في كل جانب من جوانب شخصيته ضعفاً لا

يوازيه شيء سوى ما يدعيه من القوة والعزة والسطوة!

إن هذه الكلمات القرآنية الثلاث قد لخّصت لنا جوهر الإنسان، لكن دون أن

تضع لنا الإصبع على مفردات ذلك الضعف ومظاهره ليظل اكتشافها التدريجي

عبارة عن دروس وعظات مستمرة تذكر الإنسان بحقيقته، وسوف ينفذ العمر دون

أن نحيط بحقيقة أنفسنا.

ويمكن أن نسلط الضوء على بعض ما أدركناه من ضعفنا وبعض ما يجب

علينا تجاه ذلك في الكلمات التالية:

1- تَبَصّر بني الإنسان عل الرغم من التقدم المعرفي الكبير بأجسامهم مازال

محدوداً إلى يوم الناس هذا، فهناك أجزاء من أجسامنا مازالت مناطق محرّمة، فعلم

الدماغ مازال علم إصابات أكثر من أن يكون علم وظائف وتشريح، ومركبّات

الأنسجة والسوائل المختلفة في أجسامنا وتفاعلها مع بعضها مازال الكثير منها

مجهولاً، فإذا ما دلفنا إلي مناطق المشاعر والإدراك وصلاتها وتفاعلاتها بالجوانب

العضوية، وجدنا أن كثيراً مما لدينا ظنون وتخرصات أكثر من أن يكون حقائق.

فإذا ما خطونا خطوة أخرى نحو العالم الوجداني والروحي وجدنا أنفسنا في

متاهات وسراديب، حتى إن الفردية لتطبع كل ذرة من ذرات وجودنا المعنوي،

مما يجعل إمكانات الفهم ووضع النواميس والنظم العامة أموراً قليلة الفاعلية محدودة

النجاح.

إن الباحثين في مجالات علوم الإنسان يجدون الطرق متشعبة ملتوية كلما

تقدموا نحو الأمام، على حين أن الباحثين في علوم الطبيعة يستفيدون من أنواع

التقدم المعرفي الأفقي في إضاءة ما بقي مظلماً من مسائل الطبيعة والمادة. وتقدّس

الله تعالى إذ يقول: [ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من

العلم إلا قليلا] [الإسراء: 85]

ويزداد ظهور ضعف الإنسان حين يدخل الإنسان في صراع بين عقله

ومشاعره حيث يجد نفسه عاجزاً عن دفع مشاعره والخلاص من وساوسه والتغلب

على مخاوفه أو معرفة مصدرها في بعض الأحيان، ليدرك المرة تلو المرة أنه مع

طموحه إلي السيادة على الأرض وغزو الفضاء قاصر عن السيطرة على نفسه!

إن فاعلية كل رأي ودقته نابعان من مجموعة العمليات التي يستند إليها فحين

تكون تلك العمليات ظنية وعائمة فإن آراءنا الطبية والنفسية سوف يظل كثير منها

هشاً ونسبي الصواب.

2- هذا الإنسان الضعيف لا يستطيع أن يبصر الأمر إلا ضمن شروط

ومعطيات زمانية ومكانية وثقافية خاصة ومحدودة، فهو لا يستطيع أن يتخلص من

محدودية الرؤية وضرورة النظر من زاوية معينة، وهذا هو السرّ الأكبر في أننا لا

نملك أن نتفق حول كثير من المسائل والقضايا المطروحة. إن خصوصية تكويننا

وظروفنا ومشاعرنا تدفع مواقفنا وآراءنا إلى التفرد، ومن ثم فإننا نعجز عن توحيد

الرؤية وبسط الرأي الواحد في أكثر شؤوننا.

3- نحن عاجزون عن إدراك الأشكال النهائية لأكثر حقائق هذا الكون دفعة

احدة، فالحقائق لا تسفر لنا عن كل أبعادها وأطوارها إلا على سبيل التدرج، ومن

ثَمّ فإن الإنسان الضعيف يظل يكتشف عجزه باستمرار، وكأن ما يحرزه من التقدم

اليوم ليس إلا عنواناً على ما كان يجهله بالأمس، وما سيصل إليه غداً ليس إلا

رمزاً على ما يجهله اليوم، ومن ثم فإن التغيير والتطوير يظلان ملازمين لكل

إنتاجاتنا وإبداعاتنا علي مقدار ما نحرزه من تقدم في العلم والفهم، والمقولة التي لا

يفتأ هذا المخلوق الضعيف يرددها: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا، ولقلت كذا..، وانطلاقاً من هذا فإن من سمات النظريات العلمية الناجحة أن

تكون منفتحة وذات قابلية جيدة للإضافات التي تأتي بها حركة كشف الحقائق

وإدراك المجهولات.

4- هذا الإنسان الضعيف لا يستطيع أن يجزم بشيء مقطوع من حوادث

المستقبل، فمهما أدرك المرء الظروف والعوامل والمؤثرات التي تحيط به لم

يستطع أن يعرف ماذا سيحدث له بعد شهر أو يوم أو ساعة، وأعظم أطباء الدنيا لا

يستطيع ضمان استمرار حياته أو حياة غيره ساعة من زمان، ومن ثمّ فإن القلق

والخوف من المستقبل هما الهاجس الجاثم فوق صدر الإنسان الحديث الذي فقد

الإيمان وفضيلة الدمج بين الحياة الدنيا والآخرة، والمتأمل في كثير من الأقوال

والتصريحات والدراسات يجد أن خبراء الاستراتيجية هم أكثر الناس مجازفة ولا

سيما عندما يشرعون في سرد التفاصيل للأحداث المتوقعة، حيث تقصر طاقات

البشر وإمكاناتهم عن التنبؤ بها [2] .

5- أكثر ما يظن فيه عجز الإنسان وضعفه هو الإمكانات التي يمتلكها لفهم

الواقع المعاش بكلياته وجزئياته ومشكلاته وخباياه، وقد كثرت في أيامنا هذه الدعوة

إلى فهم الواقع وفقهه، وهي دعوة مهمة، لكنها تخفي في طريقة طرحها نوعاً من

التبسيط للمسألة، حيث إن فهم الواقع أو مقاربته مسألة من أعقد ما يواجهه العقل

البشري، فالقيم التي نؤمن بها تتحكم إلى حد كبير في رؤيتنا لذلك الواقع، وكثيراً

ما تشكل حائلاً بيننا وبين رؤية حقيقة ما يجري فيه. والعقل الإنساني حتى يلامس

الواقع فإنه يفترض ثباته وجموده، على حين أن الواقع يظل محطّة لتدفق التحولات

المشعثة الكثيرة والحادة أحياناً مما يجعل إدراكنا قاصراً عن ملاحقته، وبالتالي فإن

أحكامنا تصدر على أشياء فائتة ومنتهية ومن هنا فإنه لابد من بناء (إشكالية) ، يتم

من خلالها تقسيم الواقع إلى قضايا يمكن تحديدها وتقديم إجابات وحلول لها، والنمط

الذي سنصور الواقع من خلاله هو عبارة عن صورة عقلية مركبة تدخل فيها رؤانا

العقدية إلى جانب العناصر المعرفية والقيم الاجتماعية التي ترشد حركة المجتمع،

ومادام كل ذلك متفاوتاً عند الناس فإن عجزنا عن لمّ الخلاف سوف يظهر أكثر

وأكثر عندما نحاول تقويم الواقع وإصدار الأحكام عليه.

وهذا ما سيؤدي بالتالي إلى اختلافات كثيرة في مناهج الإصلاح ومشروعات

النهوض الحضاري، وهنا يظهر مرة أخرى مأزق وهن الإنسان حيث إن التقدم

العلمي لا يتحقق دون الإغراق في التخصص، والتقدم يستمد مشروعيته وأهميته

من كونه يقدم الأدوات التي تساعد على إصلاح شأن الإنسان وترشيد قراراته، لكن

الإغراق في التخصص يحول دون فهم الواقع ودون فهم حاجات الإنسان المختلفة

من منظور شامل، إذ إن مجال التخصصات هو الجزئيات، وفهم الواقع الإنساني

يحتاج إلى رؤى ونظريات كلية لا تتوفر عادة عند الاختصاصيين.. ومن هنا ندرك

لماذا نرى تقدم المعرفة وتأخر الإنسان وانحداره شيئاً فشيئاً نحو البربرية! إننا

عاجزون عن رعاية شؤوننا إذ اما ابتعدنا عن الانتفاع بالهداية الربانية.

الموقف الموضوعي مما سبق:

إذا كان الإنسان على ما ذكرنا من العجز والقصور فإن عليه أن يطامن من

نفسه، ويخضع لقيوم السموات والأرض خضوع العارف بضعته المدرك لعظمة

خالقه متخذاً من ذلك باباً للأوبة والتوبة الدائمة.

وعلى الإنسان مع ذلك أن يحترم عقله وقدراته فلا يزجّ به في مجاهيل

وغيوب لا يملك أدنى مقدمات للبحث فيها، حتى لا يتناقض واقعه مع ذاته ومن

المنهجية القويمة أن نعلّم أنفسنا الصبر على الاستقراء والتأمل وعدم المسارعة إلي

إطلاق الأحكام الكبيرة قبل التأكد من سلامة المقدمات التي تستند إليها، وحين نصل

إلي حكم ظني فإنه علينا أن نصوغة بطريقة تُشعر المطلع عليه بذلك، فلا نسوق

القطعيات مساق الظنيات، ولا الظنيات مساق القطعيات. ويروون عن الإمام مالك

رحمه الله أنه كان كثيراً ما يردد قوله تعالى [إن نظنُّ إلا ظنَّاً وما نحن بمستيقنين] [الجاثية: 32] وذلك عندما يُستفتى فيفتي، وقد عتب الإمام الجويني على

الماوردي أنه كان في كتابه» الأحكام السلطانية «يسوق المظنونات والمعلومات

على منهاج واحد» [3] . مع أن النصوص في مجالات «السياسة الشرعية»

قليلة، وأكثر المسائل فيها مبنية على الاجتهاد.

إن الوضعية التي وضع الله تعالى فيها الإنسان تحتم أن نظل في حالة من

الاستعداد الدائم لقبول الحق أياً كان مصدره والتراجع عن الخطأ وتعديل الرأي

وامتلاك فضيلة المرونة الذهنية، وعلى الله قصد السبيل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015