3 - الحلف على ترك التدخين

يقول السائل: إنَه مدخن شره وقد حلف يميناً بالله العظيم ليلزم نفسه على ترك التدخين ولكنه لم يستطع ترك الدخان ورجع إلى التدخين فماذا يلزمه في هذه الحالة، أفيدونا؟

الجواب: لا شك أن الدخان خبيث من الخبائث، وإن أبى بعض المدخنين ذلك، كما أنّ التدخين حرام على الصحيح من أقوال أهل العلم، وإن أبى بعض المشايخ المدخنين ذلك، وخاصَة الذين يزعمون أنّ التدخين مباح من المباحات، فقولهم هذا قول ساقط متهافت، ولا قيمة له بعد أن اتفقت المصادر الطبيّة والعلمية والصحيَة على ضرر التدخين المتحقق على صحة المدخن وعلى نفسيّته وعلى ماله وعلى صحة من حوله، وأضرار التدخين على المجتمع بشكل عام، بل إنَ التدخين أشد فتكاً بالإنسان من مرض الإيدز، وقد اتفقت الهيئات العلمية والمجامع الطبيّة والصحيّة على أضرار التدخين، وقرّرت أنَه سبب رئيس للسرطان وتليف الكبد وأمراض الشريان التاجي والذبحة الصدريّة وسرطان الفم وغيرها من الأمراض الخبيثة، وهذا ما أكّده أهل الخبرة والاختصاص من الأطباء والكيميائيين وغيرهم، فالدخان يتكوّن من مجموعة كثيرة من المواد، منها أكثر من خمسة عشر نوعاً من السموم الفتّاكة كالنيكوتين الذي يعد من السموم القوية والفعّالة وله أثر سيء على الكلية والجهاز العصبي والدم، ومنها أوّل أكسيد الكربون وهو معروف بتأثيره السام وله تأثير سيء على الدم، ومنها القطران وهو المادة اللزجة الصفراء التي تؤدي إلى اصفرار أسنان المدخن ونخرها، وإلى التهابات اللثة، وهو أخطر محتويات الدخان على الصحة ويسبب السرطان والتهابات الشعب الهوائية وغير ذلك من المواد الضارة التي تلحق الضرر والأذى بصحة المدخن. فالتدخين يضر بالفم وبالشفاه واللثة والأسنان واللسان واللوزتين والجهاز الهضمي والجهاز التنفسي والأعصاب والدورة الدموية والجهاز البولي، كما أن للتدخين ضرراً على النسل لذلك تُنصح الحوامل بعدم التدخين وما كان ضرره كذلك فلا شك في حرمته، لأن الإسلام يحرم كل خبيث وضار، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} سورة الأعراف الآية 127. وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (لا ضرر ولا ضرار) رواه أحمد وابن ماجة والطبراني وهو حديث صحيح، كما قال العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 250. والأدلة على تحريم التدخين كثيرة وليس هذا محل ذكرها. إذا تقرر تحريم التدخين فإن الواجب على المدخن أن يقلع عن هذه المعصية، وأن يترك التدخين، وترك التدخين يحتاج إلى عزيمة صادقة وإرادة قوية، وليس الأمر كما يزعم كثير من المدخنين أنهم لا يستطيعون تركه، فهذا هراء، فالإرادة القوية تلعب دوراً مهماً في السيطرة والتخلص من العادات السلبية التي تضرُّ بصحة الإنسان، ومنها عادة التدخين. وتشكل عزيمة الإنسان الصادقة نقطة البداية في ترك التدخين، ولا بد أن يقتنع المدخن أولاً بضرر الدخان الحقيقي على صحته وماله، حتى يسهل عليه تركه، ثم يعزم على ذلك مع الصبر ومخالفة الهوى، مع العلم أنه يوجد اليوم أساليب علمية تساعد في الإقلاع عن التدخين.

وبعد هذا البيان الموجز لحكم التدخين وضرره أعود إلى السؤال فأقول: يجب على من حلف بالله تعالى ليلزم نفسه بترك الدخان أن يبر بيمينه، فيمتنع عن التدخين، وقد قرر الفقهاء أن من حلف على ترك معصية من المعاصي كالحلف على ترك التدخين فيلزمه البر بيمينه شرعاً، يقول الله تعالى: {ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} سورة النحل الآية91. فإن لم يفعل أي لم يترك التدخين فقد حنث بيمينه وتلزمه كفارة اليمين، يقول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} سورة المائدة الآية 89. وكفارة اليمين هي إطعام عشرة مساكين أو كسوة عشرة مساكين أو عتق رقبة على التخيير، أي أنَ الحالف يختار واحدة من هذه الخصال الثلاث، فإذا كان فقيراً عاجزاً عن التكفير بإحدى هذه الخصال فإنه يصوم ثلاثة أيام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: [ ... الذي يحلف على فعل ما يجب عليه، من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وطاعة السلطان، ومناصحته وترك الخروج، ومحاربته، وقضاء الدَّين الذي عليه، وأداء الحقوق إلى مستحقيها والامتناع من الظلم والفواحش، وغير ذلك، فهذه الأمور كانت قبل اليمين واجبة، وهي بعد اليمين أوجب، وما كان محرماً قبل اليمين فهو بعد اليمين أشد تحريماً، ولهذا كان الصحابة، رضي الله عنهم يبايعون النبي صلى الله عليه وسلم على طاعته والجهاد معه، وذلك واجب عليهم ولو لم يبايعوه، فالبيعة أكدته، وليس لأحد أن ينقض مثل هذا العقد) . مجموع الفتاوى 33/145.

ومن الجديد بالذكر أن من نذر نذراً ليلزم نفسه فعل شيء أو تركه، كأن قال المدخن لئن رجعت إلى التدخين لأتصدقن بمئة دينار مثلاً، فهذا له حكم اليمين، لأن النذر يمين، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصه فلا يعصه) رواه البخاري، فالواجب الوفاء بهذا النذر فإن لم يف بنذره لزمته كفارة يمين. ومما يدل على لزوم الكفارة عند عدم الوفاء بالنذر، عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر كفارة اليمين) رواه مسلم، قال الإمام النووي: [قوله صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر كفارة اليمين) اختلف العلماء في المراد به، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج، وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلاً: إن كلمت زيداً مثلاً فلله عليَّ حجة أو غيرها , فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين وبين ما التزمه , هذا هو الصحيح في مذهبنا , وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق، كقوله: عليَّ نذر، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية، كمن نذر أن يشرب الخمر، وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر، وقالوا: هو مخير في جميع النذورات بين الوفاء بما التزم، وبين كفارة يمين] شرح النووي على صحيح مسلم 4/269.

ويؤيد ذلك ما ورد في الحديث عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما النذر يمين، كفارتها كفارة يمين) أخرجه أحمد وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 2860. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (النذر نذران: فما كان لله فكفارته الوفاء، وما كان للشيطان فلا وفاء فيه، وعليه كفارة يمين) رواه النسائي والبيهقي وغيرهما وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم 479.

وأخيراً أنبه على أن الحلف لا يكون إلا بالله أو بأسمائه وصفاته فقط ولا يجوز الحلف بغير الله عز وجل، فالحلف أو القسم المشروع لا يكون إلا بالله سبحانه وتعالى أو باسم من أسمائه أو صفة من صفاته وما عدا ذلك لا يجوز الحلف به. وقد علَّل أهل العلم عدم جواز الحلف إلا بالله لأن الحلف يقتضي تعظيم المحلوف به والعظمة إنما هي لله وحده، فلا يحلف إلا بالله وأسمائه وصفاته. فالحلف بغير الله حرام، سواء حلف بما هو معظم شرعاً كالحلف بالكعبة أو بالصلاة أو الصيام أو المسجد أو غيرها أو حلف بحياة فلان أو حلف بأبيه أو أمه أو حلف بحياة الملك أو حياة الرئيس أو غير ذلك، فكله حلف محرم، والأدلة على ذلك كثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله) رواه مسلم، فهذا الحديث يدل دلالة صريحة على قصر الحلف بالله فقط، وعن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يحلف بأبيه فقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) رواه البخاري ومسلم، وعن سعد بن عبيدة أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: (لا والكعبة. فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، وفي رواية (فقد كفر) ، رواه أبو داود والترمذي وأحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل حديث رقم 2561. وكذلك النذر فلا بد أن يكون لله عز وجل، فقد ورد في الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله) رواه أبو داود والحاكم وحسنه العلامة الألباني في صحيح الجامع حديث رقم 13479. وعن ثابت بن الضحاك (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال: أكان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال: أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) رواه أبو داود وابن ماجة وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 1732، وبوانة مكان قريب من مكة المكرمة.

وخلاصة الأمر أن الدخان من الخبائث وأن التدخين حرام شرعاً على الصحيح من أقوال أهل العلم، وأن من حلف على ترك التدخين فيلزمه البر بيمينه، فإن لم يفعل لزمته كفارة اليمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015