التفسيرات اللغوية لقوله تعالى: (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم)

[وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المسخين كلاهما من أصحاب السبت، فشبابهم مسخوا قردة، وشيوخهم مسخوا خنازير.

(وعبد الطاغوت) أي: وجعل منهم من عبد الطاغوت، أي: أطاع الشيطان فيما سول له، وقرأ ابن مسعود: (وعبدوا الطاغوت) وقرأ حمزة: (وعَبُدَ الطاغوت) بضم الباء وجر التاء أراد العبد].

يعني: الجمعي، عُبُد يعني جمع عابد، جعل منهم من عبد، والمعنى واحد.

[وهما لغتان: عبد بسكون الباء، وعبد بضمها].

هذا إذا أريد الإفراد.

[مثل سَبُع وسُبْع وقرأ الحسن (وعبد الطاغوت) على الواحد.

وفي تفسير الطبرسي: قرأ حمزة وحده (وعبُد الطاغوت) بضم الباء وجر التاء، والباقون (وعبد الطاغوت) بنصب الباء وفتح التاء، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي والأعمش وأبان بن تغلب (وعُبُدَ الطاغوتِ) بضم العين والباء وفتح الدال وخفض التاء.

قال: وحجة حمزة في قراءته (وعبُد الطاغوت) أنه يحمله على ما عمل فيه قوله (جعل)].

يعني: يعطفه على الأفعال السابقة، وكلها أفعال ماضية، لعن: فعل ماضي، (من لعنه الله) وقوله: (وغضب) كذلك، وحمله على هذه الأفعال الماضية يكون الباب واحداً، كل هذه أفعال ماضية.

[كأنه: وجعل منهم عبُد الطاغوت ومعنى: (جعل) أي: خلق كقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1] وليس عبد لفظ جمع؛ لأنه ليس من أبنية الجموع شيء على هذا البناء، ولكنه واحد يراد به الكثرة، ألا ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه الإفراد ومعناه الجمع؟ كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] ولأن بناء فعُل: يراد به المبالغة والكثرة نحو يقظ ودنس، وكأن تقديره: أنه ذهب في عبادة الطاغوت كل مذهب] كلمة (جعل) هذه تأتي على استعمالين: استعمال بمعنى: خلق، كهذه الآية وكقوله جل وعلا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] وهذا كثير، وعلامة ذلك أنها إذا جاءت بمعنى (خلق) أنها لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد فقط.

وتأتي بمعنى: صير، وليس معنى (صير) أنه خلق، لا، معناها: أنه عالج الأشياء أو اعتقدها، أي: اعتقد أنها كذا، أو قال: إنها كذا، وهذا أيضاً استعماله كثير في اللغة العربية، ووروده في القرآن أيضاً كثير، وعلامة ذلك أنه يتعدى إلى مفعولين كما في قوله جل وعلا: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91] {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19] وهذا بمعنى اعتقدوا أو قالوا ذلك.

وهذا قد يغلط فيه بعض الناس لا سيما الذين لهم أهواء، وربما قالوا: إن (جعل) تدل على الخلق، ثم يدخلون ما يريدون كإدخالهم للقرآن بأنه مخلوق، فيقولون: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] يعني: خلقناه! وكقوله: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91] وما أشبه ذلك.

وهذا يدل على الجهل في الواقع؛ لأنه لا يمكن أن يقال: خلقوا الملائكة، وكذا قوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91] وما أشبه ذلك، وهذا من أنفع ما يكون لطالب العلم أن يفرق بين الألفاظ واستعمالاتها، ويعرف مواقعها.

[وأما من فتح فقال: (وعبد الطاغوت) فإنه عطفه على بناء المضي الذي في الصلة وهو قوله: (لعنه الله) وأفرد الضمير في عَبَد، وإن كان المعنى فيه الكثرة؛ لأن الكلام محمول على لفظه دون معناه.

وفاعله ضمير (من)، كما أن فاعل الأمثلة المعطوف عليها ضمير (من)، فأفرد لحمل ذلك جميعاً على اللفظ، وأما قوله: (عبد الطاغوت) فهو جمع عبد.

وقال أحمد بن يحيى: عُبُد جمع عابد كبازل وبُزل، وشارف وشرف، وكذلك عُبَّد جمع عابد ومثله عباد وعباد.

انتهى].

قال الشارح رحمه الله: [وقال شيخ الإسلام في قوله (وعبد الطاغوت): الصواب: أنه معطوف على ما قبله من الأفعال أي: من لعنه وغضب عليه، ومن جعل منهم القردة والخنازير، ومن عبد الطاغوت، قال: والأفعال المتقدمة الفاعل فيها اسم الله تعالى مظهراً أو مضمراً، وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت، وهو الضمير في عبد، ولم يعد سبحانه من؛ لأنه جعل هذه الأفعال صفة لصنف واحد وهم اليهود.

قوله: (أولئك شر مكاناً) مما تظنون بنا.

(وأضل عن سواء السبيل) وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر له مشارك، كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] قاله الـ عماد ابن كثير في تفسيره وهو ظاهر].

هذا لأنه يأتي أفعل التفضيل فيما لا مشارك له في الجانب الآخر، وبهذا يرد على القدرية الذين قالوا: إن قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] وما أشبه ذلك يدل على إثبات الخلق للعباد، وأنهم يخلقون أفعالهم بدليل هذه الآية ونحوها.

صلى الله عليه وسلم هو ما ذكره هنا، أن قوله: (تبارك الله أحسن الخالقين) هذا استعمل فيما لا مشارك له في الخلق؛ لأن قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] أصحاب النار ما يشاركون أهل الجنة بشيء مما فيها، وقوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان:24] لا يمكن أن يقال: إن هذا استعمل على بابه، وإنما استعمل بالشيء الذي لا مشاركة فيه، يقول الله جل وعلا: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59] لا يوجد أحد يقول: إن الأصنام تشارك الله في الخيرية أو في شيء من ذلك مطلقاً، وهذا كثير في القرآن، ومن المعلوم أن أصحاب البدع والأهواء يتعلقون بالشبهات، ويفرحون إذا وجدوا شيئاً يتعلقون به من القرآن أو من الأحاديث، ومن الأمور التي ينبغي أن تعلم أن القرآن فيه شيء مما قد يشتبه في اللفظ للدلالة، وإذا صار الإنسان عنده سوء فهم أو سوء اتجاه يكون فتنة له، وهذا الذي يشير إليه قوله جل وعلا: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] فهم يبحثون عن الشيء الذي يتفق مع أهوائهم، ومع مناهجهم ومقاصدهم، بغض النظر عن مراد المتكلم، ولو كانوا يريدون مراد المتكلم لكان الأمر واضحاً جلياً؛ لأن هناك آيات واضحات تبين هذا، إذا أرجعت إليها زال الإشكال نهائياً، وأصبح لا يوجد إشكال.

والواجب على العبد أن يتخلى من هوى النفس، ومن الأغراض التي تكون على خلاف مراد الرب جل وعلا أو مراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن هذا يحتاج إلى مجاهدة، ويحتاج إلى توفيق من الله جل وعلا، والإنسان قد لا يملك نفسه {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة:41] إلا أنه إذا فعل الإنسان الأسباب التي أمر بها فغالباً أن الله يوفقه، بخلاف الذي يعرض عن أمر الله من أول وهلة اتباعاً لشيء يريده، إما يريد علواً على الخلق، يريد أن يكون هو أفضل منهم، وأعلى منهم أو كان له أغراض دنيوية، أو عنده حسد وحقد على الآخرين؛ فهذا غالباً لا يوفق ويزداد ضلالاً إلى ضلاله إلا أن يشاء الله، ولهذا يقول الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، ويقول تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110] والمعنى: أنه لما جاءهم أمرنا فردوه أول الأمر قلبت أفئدتهم وأبصارهم جزاءً لردهم الحق أول ما جاءهم.

ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضح الأمور وبينها، وأما فهوم الناس واتجاهاتهم فهذه يجب أن تعرض على الكتاب والسنة، ويجب أن يتجرد في ذلك، ليس لأن ينتصر على فلان، أو ينصر المذهب الفلاني، ويرد على المذهب الفلاني، إذا كان هذا قصده فالقصد سيء، والعمل ليس لله جل وعلا، وإنما الواجب على الإنسان أن يطلب الحق، وعلامة ذلك أنه يقبل الحق ممن جاء به سواءً كان صديقاً له أو غير صديق، إذا تبين له الحق قبله، أما إذا كان لا يقبل الحق إلا ممن يتفق معه في رأيه ومنهجه فهذا علامة أنه لا يريد الحق، والله جل وعلا يتولى جزاء عباده، وسوف يحاسبهم على نياتهم ومقاصدهم، وإنما على الإنسان أن يجتهد لنفسه لئلا يقع في الباطل، ولن يضيع شيء أبداً، وكل خلاف وقع، وكل حكومة وقعت، وكل مسألة وقعت سوف تعرض بين يدي الله، ويحكم فيها بحكمه العدل، فهو جل وعلا يعلم لسان كل متكلم، ويعلم قلب كل متكلم ماذا يريد، على الإنسان أن يستحضر هذه الأمور، ويسعى لنفسه إما أن يكتسب الحسنات أو يكتسب السيئات.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015