ليس للمشركين حجة ولا برهان على شركهم

ليس لهم أي حجة ولا برهان إلَّا أنهم قالوا: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء:74] فقط، وهكذا يقول مَن بعدهم، إذا قيل لهم: لا تدعوا الأموات، لا تطلبوا من الأموات شيئاً، رأيتهم يسمونه توسلاً أو تقرباً أو تشفعاً، مع أن التسمية لا تغير من الواقع شيئاً، فلو سُمِّي الربا بغير اسمه، أو سُمِّي الخمر بغير اسمه، فإن الحكم لا يتغير، والمقصود: أن الناس من أول ما وقعت المخالفة فيهم، إلى آخر أمة أرسل فيهم آخر رسول صلوات الله وسلامه عليه، كلهم يقرون بأن الله جلَّ وعلا -وحده- هو الذي يخلق، وهو الذي يحيي ويميت، وهو الذي ينزل المطر، وهو الذي ينبت النبات، ويدر الرزق، وهو الذي يكشف السوء، وهو الذي إذا دعاه المضطر أزال ما فيه من الضر، كلهم يقرون بهذا، فلماذا يدعون حجراً أو شجرةً أو ميتاً؟! ليس عندهم إلَّا التقليد، وقع آباؤهم في ذلك فاتبعوهم عليه، كما قال إبراهيم عليه السلام: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:52 - 53] فقط، أهذا دليل؟! وكذلك يقول جلَّ وعلا في آيات أُخَر: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] (على أمة) يعني: على دين، فالمقصود بـ (الأمة) هنا: الدين، {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] يقتدون بهم، هكذا جميع الأمم تقول هذا الشيء، حتى في الوقت الحاضر، فإذا رأيت الناس على شيء من المخالفات، وقلت لهم: لا تفعلوا هذا، فإن هذا لا يجوز، وجدت كثيراً من الناس يقول لك: الناس كلهم يفعلون هذا، وهذا معنى قول الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، هو قولهم تماماً، والمسلم لم يكلف بالنظر إلى أفعال الناس، وإنما كلف بالنظر إلى الوحي إلى الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الذي كُلِّف الإنسان به؛ لينظر إليه ويتعرف عليه، ثم يعمل به، فإن الناس لا ينفعونه، ولهذا: فإن الإنسان إذا وُضع في قبره، وجاءه الملك الذي يختبره فيقول له: (ما دينك؟ يقول: هاه! وجدتُ الناس يفعلون شيئاً ففعلتُه) أينفعه هذا؟! لا ينفعه، وإنما ينفع الإنسانَ العلمُ الذي جاء به الوحي، وهو الذي كُلِّف به الإنسان.

والمقصود: أن الذين يدعون غير الله أو يعبدونه ليس لهم حجة وليس عندهم برهان، حتى إن الشيطان يقوم فيهم خطيباً -إذا جُمع أهل النار في النار- ويقول: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:22]، يعني: ما كان لي عليكم حجة، لا توجد حجة أحتج بها عليكم، وإنما: {دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] فقط، مجرد دعوة! ثم يقول: {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم:22]، يعني: ما أنا بمنقذكم ولا بمغيثكم، لا أستطيع ذلك {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22] يعني: وأنتم لا تنقذونني من العذاب، ولا تغيثونني من ذلك وأنا كذلك، إذاً: غرَّهم فضرَّهم ثم تبرأ منهم، وهذه هي المصيبة، عند أن تجتمع عليهم أنواع العذاب من جميع الجهات، فلا يبقى شيء من العذاب إلَّا اجتمع لهم.

والمقصود: أن كل من تعلق بغير الله فليس له أي حجة وأي برهان، وإنما هي شُبَه تتعلل بها الأنفس، وترد بها الحق، أما البراهين والأدلة فهي تدل على أن ما هم فيه باطل.

قال الشارح رحمه الله: [وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [فاطر:2]، فهذا ما أخبر به الله تعالى في كتابه من تفرده بالإلهية والربوبية، ونصَب الأدلة على ذلك، فاعتقد عُباد القبور والمشاهد نقيض ما أخبر به الله تعالى، واتخذوهم شركاء لله لاستجلاب المنافع ودفع المكاره: بسؤالهم، والالتجاء إليهم بالرغبة والرهبة والتضرع، وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها إلَّا الله تعالى، واتخذوهم شركاء لله في ربوبيته وإلهيته، وهذا فوق شرك كفار العرب القائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18]، فإن أولئك يدعونهم ليشفعوا لهم ويقربوهم إلى الله، وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك، لا شريك لك، إلَّا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك]: معناه: أنهم يحجون ويتعبدون لله جلَّ وعلا ويسألونه؛ ولكنهم يشركون به، ومن المهم جداً عند المسلم أن يعرف حقيقة الشرك الذي كان عليه المشركون؛ لأن الإنسان إذا لم يعرف الباطل لم يعرف الحق، وكثير من الناس يتصور أن شرك المشركين هو السجود للأصنام، واعتقادهم أنها تعطيهم الجنة وتمنعهم من النار، وأنها ترزقهم، وكذلك تسعدهم وتضرهم، وهذا لم يكن المشركون يعتقدونه، وإنما كان شركهم: أنهم يسألونها لتشفع لهم، وهذا معنى قوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يعني: أنهم ليس بأيديهم شيء، وإنما هم وساطة لنا، فيشفعوا لنا عند من بيده النفع والضر، هذا هو شركهم، ومع ذلك صاروا من أهل جهنم، وهم يعلمون أن الأمور كلها بيد الله، حتى إن منهم مَن يؤمن بالقدر، ومنهم مَن يؤمن بالبعث، إلَّا أنه وقع في هذا الشرك، فجعل بينه وبين ربه وسائط يدعوها لتشفع له، وتقربه إلى الله زلفى، وهذه هي الشفاعة التي طلبوها، ولهذا جاءت الشفاعة في القرآن على نوعين:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015