توجيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه إن صدق)

يورد الإمام النووي هنا شبهة ويجيب عنها: قال: (فإن قيل: الحديث مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه إن صدق)) وهذا الحديث في الصحيحين: (أن رجلاً -وهو ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه- لما أتى إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فسأله عن فرائض الإسلام، فأخبره النبي عليه الصلاة والسلام أن الله افترض عليه خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: يا رسول الله! هل عليّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع، ثم ذكر الصيام فقال: إن الله افترض عليك صيام شهر في كل سنة -وهو شهر رمضان- فقال: يا رسول الله! هل عليّ غيره؟ قال: لا، إلا أن تطوع، حتى ذكر له أركان الإسلام، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أفلح وأبيه إن صدق)، وفي رواية البخاري: قال: (أفلح إن صدق)، والزيادة صحيحة؛ بدليل أنها في صحيح مسلم، ولم تكن من الأحرف التي تناولها النقاد بالنقد أو الشذوذ أو غير ذلك.

ولذلك تأولها العلماء، فقالوا: هذا كلام درج على ألسنة العرب لا يقصدون به اليمين، أي: أنه كلام عادي يقوله الناس، لكن لا يعني ذلك أنه يجوز الحلف بالنبي عليه الصلاة والسلام، يكاد اليمين بالنبي أن يكون يميناً عند المصريين، مع أن كثيراً من الناس لا يقصد به اليمين، فيكون غير منعقد من أساسه، إنما يذكرونه على سبيل الكلام الدارج الذي درج على الألسنة، كثيراً ما يقول الناس: والنبي تفعل، والنبي لا تفعل، والنبي تقول، والنبي لا تقول، وهم لا يقصدون به عين اليمين، ولم تنعقد نيتهم على أنه يمين يحنث به أو غير ذلك، وإنما هذا كلام درج على الألسنة، وإن كنا نتمنى أن يوفق الله تعالى هذا الشعب كله لترك هذا الكلام؛ لأنه مخالف لظواهر النصوص التي نهت عن الحلف إلا بالله عز وجل وأسمائه وصفاته.

أما هذا الحديث الذي بين أيدينا: (أفلح وأبيه إن صدق)، ففي الدرس الماضي قلنا: إن أي يمين يسبق بالواو أو الباء أو التاء هي يمين منعقدة، لكن الشبهة هنا قوله عليه الصلاة والسلام: (أفلح وأبيه إن صدق)، فهل يجوز الحلف بالأب هنا؟

صلى الله عليه وسلم لا؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تحلفوا بآبائكم)، فمن باب أولى ألا يحلف هو صلى الله عليه وسلم بأبيه ولا بأبي غيره، والأولى به ألا يحلف بذلك لا ذاكراً ولا آثراً كما فعل عمر رضي الله عنه، والنبي عليه الصلاة والسلام هو مصدر التشريع لا عمر، فإذا صدر هذا من عمر والتزمه عمر، فمن باب أولى النبي عليه الصلاة والسلام أن يلتزم بذلك، فما باله عليه الصلاة والسلام قال هذا.

هذا له تأويلان: التأويل الأول: أن ذلك كان كلاماً دارجاً على ألسنة العرب لا تقصد به ذات الحلف ولا عين اليمين، وبالتالي فإنه لا حرج حينئذ أن يقول عليه الصلاة والسلام: (أفلح وأبيه إن صدق).

التأويل الثاني: أن النبي عليه الصلاة والسلام قصد به اليمين قبل أن يخبره الوحي بأن الحلف بغير الله محرم أو مكروه، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام حلف هذا اليمين أولاً، ثم أخبره الله تعالى بحرمة الحلف بغير الله عز وجل، فلم يحلف بعدها قط إلا بالله وأسمائه وصفاته.

والتأويل الأول أرجح؛ لتعلق تعظيم الله عز وجل بجميع الشرائع التي سبقت شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام.

قال النووي: (فإن قيل: الحديث مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه إن صدق)؛ فجوابه أن هذه كلمة تجري على اللسان لا يقصد بها اليمين، فإن قيل: أقسم الله تعالى بمخلوقاته)، كقوله عز وجل: {وَالصَّافَّاتِ} [الصافات:1].

{وَالذَّارِيَاتِ} [الذاريات:1].

وقال: {وَالطُّورِ} [الطور:1].

{وَالنَّجْمِ} [النجم:1].

{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:1 - 4].

وقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2].

وقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين:1]) وغير ذلك من الآيات الكثيرة، وكلها أيمان أقسم الله عز وجل بها، وكل هذه المقسم بها من مخلوقات الله عز وجل، فالله تعالى ينهانا أن نقسم بالمخلوقات وهو سبحانه يقسم بالمخلوقات، ربما يكون الأمر فيه لبس أو شبهة حينئذ، لكن العلماء يقولون كما قال الإمام النووي: (ف

صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته تنبيها على شرفه)، أي: تنبيهاً على شرف هذا المخلوق وفضل هذا المخلوق، لكن يقول شيخنا الشيخ سيد سابق رحمه الله: كان العرب يهتمون بالكلام المبدوء بالقسم، بل كل إ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015