النَّسْخَ إِنَّمَا صَارَ إِلَيْهِ إِذَا عُلِمَ التَّارِيخُ وَتَعَذَّرَ الْجَمْعُ، وَالتَّارِيخُ هُنَا لَمْ يَتَحَقَّقْ وَالْجَمْعُ لَمْ يَتَعَذَّرْ، وَمَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ إِلَى تَأْوِيلِ الْقَطْعِ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ بِنَقْصِ الْخُشُوعِ لَا الْخُرُوجِ مِنَ الصَّلَاةِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ حِكْمَةِ التَّقْيِيدِ بِالْأَسْوَدِ فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ شَيْطَانٌ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَوْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي لَمْ يُفْسِدْ صَلَاتَهُ كَمَا سَبَقَ حَدِيثُ: " «إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطُرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ» " وَفِي الصَّحِيحِ: " «أَنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ لِي فَشَدَّ عَلَيَّ» : الْحَدِيثَ.

وَلِلنَّسَائِيِّ: " فَأَخَذْتُهُ فَصَرَعْتُهُ " وَلَا يَرِدُ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ جَاءَ لِيَقْطَعَ صَلَاتَهُ، لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ سَبَبَ الْقَطْعِ وَهُوَ أَنَّهُ أَتَى بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِهِ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْمُرُورِ فَقَدْ حَصَلَ وَلَمْ تَفْسَدْ بِهِ الصَّلَاةُ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ، وَفِي النَّفْسِ مِنَ الْحِمَارِ وَالْمَرْأَةِ شَيْءٌ، وَوَجَّهَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِي الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ مَا يُعَارِضُهُ، وَوَجَدَ فِي الْحِمَارِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي الْمَرْأَةِ حَدِيثَ عَائِشَةَ، وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِلَّةَ فِي قَطْعِ الصَّلَاةِ بِهَا مَا يَحْصُلُ مِنَ التَّشْوِيشِ وَقَدْ قَالَتْ: الْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَصَابِيحُ فَانْتَفَى الْمَعْلُولُ بِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ.

ثَانِيهَا: أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ مُطْلَقَةٌ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مُقَيَّدَةٌ بِكَوْنِهَا زَوْجَةً فَقَدْ يُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيُقَالُ بِتَقْيِيدِ الْقَطْعِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لِخَشْيَةِ الْفِتْنَةِ بِهَا بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهَا حَاصِلَةٌ عِنْدَهُ.

ثَالِثُهَا: أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ وَاقِعَةُ حَالٍ يَتَطَرَّقُ إِلَيْهَا الِاحْتِمَالُ بِخِلَافِ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ فَإِنَّهُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّشْرِيعِ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ بَطَّالٍ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ مِنْ مِلْكِ أَرَبَهُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ.

وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ: يُعَارِضُ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ وَمَا وَافَقَهُ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ غَيْرُ صَرِيحَةٍ، وَصَرِيحَةٌ غَيْرُ صَحِيحَةٍ، فَلَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ بِالْمُحْتَمَلِ يَعْنِي حَدِيثَ عَائِشَةَ وَمَا وَافَقَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَارِّ وَبَيْنَ النَّائِمِ فِي الْقِبْلَةِ أَنَّ الْمُرُورَ حَرَامٌ بِخِلَافِ الِاسْتِقْرَارِ نَائِمًا كَانَ أَمْ غَيْرَهُ، فَهَكَذَا الْمَرْأَةُ يَقْطَعُ مُرُورَهَا دُونَ لُبْثِهَا.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015