بِإِيجَادِ جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَأَنَّهُ الْمَعْبُودُ فِي جَمِيعِ الْأَمَاكِنِ.

(آيِبُونَ) بِالرَّفْعِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ نَحْنُ آيِبُونَ، جَمْعُ آيِبٍ بِوَزْنِ رَاجِعٍ، وَمَعْنَاهُ: أَيْ رَاجِعُونَ إِلَى اللَّهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِخْبَارُ بِمَحْضِ الرُّجُوعِ، فَإِنَّهُ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، بَلِ الرُّجُوعُ فِي حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ، وَهِيَ تَلَبُسُهُمْ بِالْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَالِاتِّصَافِ بِالْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ (تَائِبُونَ) مِنَ التَّوْبَةِ، وَهِيَ الرُّجُوعُ عَمَّا هُوَ مَذْمُومٌ شَرْعًا إِلَى مَا هُوَ مَحْمُودٌ شَرْعًا، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّقْصِيرِ فِي الْعِبَادَةِ، وَقَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَاضُعًا، أَوْ تَعْلِيمًا لِأُمَّتِهِ، أَوِ الْمُرَادُ أُمَّتُهُ، وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ التَّوْبَةُ لِإِرَادَةِ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُمْ ذَنْبٌ.

( «عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ» ) كُلُّهَا رَفْعٌ بِتَقْدِيرِ: نَحْنُ، وَقَوْلُهُ: لِرَبِّنَا مُتَعَلِّقٌ بِسَاجِدُونَ، أَوْ بِسَائِرِ الصِّفَاتِ عَلَى طَرِيقِ التَّنَازُعِ.

(صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ) فِيمَا وَعَدَ بِهِ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ بِقَوْلِهِ: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً} [الفتح: 20] (سُورَةُ الْفَتْحِ: الْآيَةُ 20) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55] (سُورَةُ النُّورِ: الْآيَةُ: 55) الْآيَةَ.

وَهَذَا فِي سَفَرِ الْغَزْوِ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ قَوْلُهُ: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] (سُورَةُ الْفَتْحِ: الْآيَةُ 27) (وَنَصَرَ عَبْدَهُ) مُحَمَّدًا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ) مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، وَلَا سَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ وَفِعْلَهُ خَلْقٌ لِرَبِّهِ، وَالْكُلُّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُبِيدَ الْكُفَّارَ بِلَا قِتَالٍ لَفَعَلَ، وَفِيهِ التَّفْوِيضُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قِيلَ الْأَحْزَابُ هُنَا: كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ، الَّذِينَ تَحَزَّبُوا، أَيْ تَجَمَّعُوا فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَنَزَلَ فِيهِمْ سُورَةُ الْأَحْزَابِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، أَيْ أَحْزَابُ الْكُفَّارِ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ وَالْمَوَاطِنِ، قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ قِيلَ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنَّ هَذَا الذِّكْرَ، إِنَّمَا شُرِعَ مِنْ بَعْدِ الْخَنْدَقِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ غَزَوَاتِهِ الَّتِي خَرَجَ فِيهَا بِنَفْسِهِ مَحْصُورَةٌ، وَالْمُطَابِقُ مِنْهَا لِذَلِكَ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب: 25] (سُورَةُ الْأَحْزَابِ: الْآيَةُ 25) وَقَوْلِهِ قَبْلَ ذَلِكَ: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلَنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9] (سُورَةُ الْأَحْزَابِ: الْآيَةُ 9) الْآيَةَ.

وَأَصْلُ الْحِزْبِ: الْقِطْعَةُ الْمُجْتَمِعَةُ مِنَ النَّاسِ، فَاللَّامُ إِمَّا جِنْسِيَّةٌ، أَيْ كُلُّ مَنْ تَحَزَّبَ مِنَ الْكُفَّارِ، وَإِمَّا عَهْدِيَّةٌ، وَالْمُرَادُ: مَنْ تَقَدَّمَ وَهُوَ الْأَقْرَبُ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْخَبَرُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ، أَيِ اللَّهُمَّ اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.

ثُمَّ ظَاهَرُ الْحَدِيثِ اخْتِصَاصُ ذَلِكَ بِالْغَزْوِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ قَوْلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَفَرٍ طَاعَةً كَصِلَةِ رَحِمٍ، وَطَلَبِ عِلْمٍ لِمَا يَشْمَلُ الْجَمِيعَ مِنِ اسْمِ الطَّاعَةِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الصَّحَابِيُّ عَلَى الثَّلَاثِ لِانْحِصَارِ سَفَرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا، وَقِيلَ: يَتَعَدَّى أَيْضًا إِلَى السَّفَرِ الْمُبَاحِ، لِأَنَّ الْمُسَافِرَ فِيهِ لَا ثَوَابَ لَهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا يُحَصِّلُ لَهُ الثَّوَابَ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015