شَيْبَةَ وَأُمِّ الْحُصَيْنِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، وَقَارَبَ الثَّقَفِيُّ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأُمُّ عُمَارَةَ عِنْدَ الْحَارِثِ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي فِيهَا تَعْيِينُ حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَكْثَرُ عَدَدًا، وَأَصَحُّ إِسْنَادًا، وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: إِنَّهُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ.

وَقَالَ عِيَاضٌ: كَانَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّهُ الْأَقْرَبُ، قُلْتُ: بَلْ هُوَ الْمُتَعَيِّنُ لِتَظَافُرِ الرِّوَايَاتِ بِذَلِكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِلَّا أَنَّ السَّبَبَ فِيهِمَا مُخْتَلِفٌ، فَالَّذِي فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَبَبُهُ تَوَقُّفُ مَنْ تَوَقَّفَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ الْإِحْلَالِ لِمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُزْنِ، لِكَوْنِهِمْ مُنِعُوا مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ مَعَ اقْتِدَارِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَخَالَفَهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى أَنْ يَرْجِعَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِالْإِحْلَالِ تَوَقَّفُوا، فَأَشَارَتْ أُمُّ سَلَمَةَ أَنْ يَحِلَّ هُوَ، فَفَعَلَ، فَحَلَقَ بَعْضٌ، وَقَصَّرَ بَعْضٌ، فَكَانَ مَنْ بَادَرَ إِلَى الْحَلْقِ أَسْرَعَ إِلَى امْتِثَالِ الْأَمْرِ مِمَّنْ قَصَّرَ، وَصَرَّحَ بِهَذَا السَّبَبِ فِي حَدِيثٍ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ الْمُحَلِّقِينَ ظَاهَرْتَ لَهُمْ بِالتَّرَحُّمِ؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا» .

وَأَمَّا سَبَبُ تَكْرِيرِ الدُّعَاءِ لِلْمُحَلِّقِينَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي النِّهَايَةِ: كَانَ أَكْثَرُ مَنْ حَجَّ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَسُقِ الْهَدْيَ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْحَجَّ إِلَى الْعُمْرَةِ، ثُمَّ يَتَحَلَّلُوا مِنْهَا، وَيَحْلِقُوا رُءُوسَهُمْ شَقَّ عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنَ الطَّاعَةِ كَانَ التَّقْصِيرُ فِي أَنْفُسِهِمْ أَخَفَّ مِنَ الْحَلْقِ، فَفَعَلَهُ أَكْثَرُهُمْ، فَرَجَّحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلَ مَنْ حَلَقَ، لِأَنَّهُ أَبْيَنُ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ وَإِنْ تَبِعَهُ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْمُتَمَتِّعَ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُقَصِّرَ فِي الْعُمْرَةِ، وَيَحْلِقَ فِي الْحَجِّ إِذَا قَرُبَ مَا بَيْنَ النُّسُكَيْنِ، وَقَدْ كَانَ كَذَلِكَ هُنَا، وَالْأَوْلَى قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ وَغَيْرِهِ: إِنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ حُبُّ تَوْفِيرِ الشُّعُورِ وَالتَّزَيُّنِ بِهَا، وَالْحَلْقُ فِيهِمْ قَلِيلٌ، وَرُبَّمَا رَأَوْهُ مِنَ الشُّهْرَةِ وَمِنْ زِيِّ الْأَعَاجِمِ لِذَا كَرِهُوا الْحَلْقَ، وَاقْتَصَرُوا عَلَى التَّقْصِيرِ.

وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنَ الْفَوَائِدِ أَنَّ التَّقْصِيرَ يُجْزِي عَنِ الْحَلْقِ، وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ إِلَّا رِوَايَةً عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ تَعَيَّنَ الْحَلْقُ أَوَّلَ حَجَّةٍ، وَثَبَتَ عَنْهُ خِلَافُهُ، وَفِيهِ أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ، لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْعِبَادَةِ، وَأَبْيَنُ لِلْخُضُوعِ وَالذِّلَّةِ، وَأَدَلُّ عَلَى صِدْقِ النِّيَّةِ، وَالْمُقَصِّرُ يُبْقِي عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا يَتَزَيَّنُ بِهِ بِخِلَافِ الْحَالِقِ، فَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لِلَّهِ وَإِشَارَةً إِلَى التَّجَرُّدِ، وَلِذَا اسْتَحَبَّ الصُّلَحَاءُ إِلْقَاءَ الشُّعُورِ عِنْدَ التَّوْبَةِ، وَتَعْلِيلُ النَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْمُقَصِّرَ مُبْقٍ عَلَى نَفْسِهِ الشَّعْرَ الَّذِي هُوَ زِينَةٌ، وَالْحَاجُّ مَأْمُورٌ بِتَرْكِهَا، بَلْ هُوَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ، فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْحَلْقَ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ انْقِضَاءِ زَمَنِ الْأَمْرِ بِالتَّقَشُّفِ، فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا النِّسَاءَ فِي الْحَجِّ خَاصَّةً، وَفِيهِ مَشْرُوعِيَّةُ حَلْقِ جَمِيعِ الرَّأْسِ، لِأَنَّهُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ: (الْمُحَلِّقِينَ) ، وَقَالَ بِوُجُوبِهِ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَاسْتَحَبَّهُ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيُّ، وَيُجْزِي الْبَعْضُ عِنْدَهُمْ، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الرُّبُعُ إِلَّا أَبَا يُوسُفَ، فَقَالَ: النِّصْفُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّ مَا يَجِبُ حَلْقُ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ، وَالتَّقْصِيرُ كَالْحَلْقِ يَأْخُذُ الرَّجُلَ مِنْ جَمِيعِ شَعْرِهِ مِنْ قُرْبِ أَصْلِهِ اسْتِحْبَابًا، فَإِنْ أَخَذَ مِنْ أَطْرَافِهِ أَجْزَأَ كَمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ وَإِنْ لَمْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015