رِوَايَةَ مَالِكٍ، لِأَنَّ الْقَارِنَ لَا يَحِلُّ مِنَ الْعُمْرَةِ، وَلَا مِنَ الْحَجِّ حَتَّى يَنْحَرَ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِمَنْ قَالَ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُتَمَتِّعًا؛ لِأَنَّ قَوْلَ حَفْصَةَ: وَلَمْ تَحْلِلْ عُمْرَتَكَ، وَقَوْلُهُ: حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ ; ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا.

وَأَجَابَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا: مِنْ عُمْرَتِكَ: مِنْ إِحْرَامِكَ الَّذِي ابْتَدَأْتَهُ مَعَهُمْ بِنِيَّةٍ وَاحِدَةٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: " «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً» "، أَيْ فَأَطْلَقْتُ اسْمَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ بِنِيَّةِ الْحَجَّةِ الْوَاحِدَةِ تَجَوُّزًا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَلَمْ تَحْلِلْ مِنْ حَجِّكِ بِعُمْرَةٍ كَمَا أَمَرْتَ أَصْحَابَكَ، وَمِنْ تَأْتِي بِمَعْنَى الْبَاءِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] (سُورَةُ الرَّعْدِ: الْآيَةُ 11) أَيْ بِأَمْرِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ بِعُمْرَةٍ مِنْ إِحْرَامِكَ وَقِيلَ: ظَنَّتْ أَنَّهُ فَسَخَ حَجَّهُ بِعُمْرَةٍ كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُهُ بِأَمْرِهِ، فَقَالَتْ: لِمَ لَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ أَيْضًا مِنْ عُمْرَتِكَ؟ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعُمْرَةِ هُنَا الْحَجُّ، لِأَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فِي كَوْنِهِمَا قَصْدًا.

وَجَزَمَ بِهِ الْمُنْذِرِيُّ، وَأَيَّدَهُ بِأَنَّهُ رُوِيَ حَلُّوا، وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ حَجَّتِكَ، وَهَذَا نَحْوُ جَوَابِ الشَّافِعِيِّ، وَضُعِّفَتْ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ بِمَا فِي الصَّحِيحِ، عَنْ عُمَرَ مَرْفُوعًا: وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ.

وَعَنْ أَنَسٍ: " ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ ".

وَلِمُسْلِمٍ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: جَمَعَ بَيْنَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ.

وَلِأَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ عَنِ الْبَرَاءِ، مَرْفُوعًا: " «إِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ» ".

وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ مِثْلُهُ، وَلِأَحْمَدَ عَنْ سُرَاقَةَ: " «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَنَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ» "، وَلَهُ عَنْ طَلْحَةَ، وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي قَتَادَةَ، وَالْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى: " «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ» "، وَأَجَابَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا نُصْرَةً لِمَنْ قَالَ: كَانَ مُفْرِدًا، فَنَقَلَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُ سَمِعَهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا، أَثْبَتُ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى عَنْهُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، ثُمَّ تَعَقَّبَهُ بِأَنَّ قَتَادَةَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْحُفَّاظِ رَوَوْهُ عَنْ أَنَسٍ كَذَلِكَ، فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ عَلَى أَنَسٍ نَفْسِهِ، قَالَ: فَلَعَلَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُ غَيْرَهُ كَيْفَ يُهِلُّ بِالْقِرَانِ، فَظَنَّ أَنَّهُ أَهَّلَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَجَابَ عَنْ حَدِيثِ حَفْصَةَ بِمَا تَقَدَّمَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَعَنْ حَدِيثِ عُمَرَ بِأَنَّ جَمَاعَةً رَوَوْهُ بِلَفْظِ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي وَقُلْ عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ، وَهَؤُلَاءِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِمَّنْ رَوَاهُ وَقُلْ، فَقَالَ ذَلِكَ لِيَكُونَ إِذْنًا فِي الْقِرَانِ لَا أَمْرًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَالِ نَفْسِهِ.

وَعَنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بِأَنَّ الْمُرَادَ إِذْنُهُ لِأَصْحَابِهِ فِي الْقِرَانِ بِدَلِيلِ رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمَتَّعَ، فَإِنَّ مُرَادَهُ بِكُلِّ ذَلِكَ إِذْنُهُ.

وَعَنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ: بِأَنَّهُ سَاقَهُ فِي قِصَّةِ عَلِيٍّ، وَقَدْ رَوَاهَا أَنَسٌ، يَعْنِي فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَجَابِرٌ فِي مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ فِيهَا لَفْظُ: وَقَرَنْتُ.

وَأَجَابَ عَنْ بَاقِيهَا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ أَذِنَ فِي ذَلِكَ، لَا أَنَّهُ فَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ.

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيمَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ مُحْرِمًا، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ أَفْرَدَ الْحَجَّ، وَأَنَّ كُلًّا أَضَافَ إِلَيْهِ مَا أَمَرَ بِهِ اتِّسَاعًا، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمَرَّ لَهُ مَزِيدٌ.

وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الصَّوَابُ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ بَعْدَ الْحَجِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِفْرَادِ الَّذِي لَمْ يَعْتَمِرْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015