عالي الهمة يجعل التثبيط له تحدياً

قال الطنطاوي: إن التشجيع يفتح الطريق للعبقريات المخبوءة، حتى تظهر وتثمر ثمرها، وتؤتي أكلها، ورب ولد من أولاد الصناع أو التجار يكون إذا شجع وأخذ بيده عالماً من أكابر العلماء، أو أديباً من أعاظم الأدباء، وفي علماء القرن الماضي في الشام من ارتقى بالجد والدأب والشجيع من حرفة الحياكة إلى منصب الإفتاء، وكرسي التدريس حتى القبة، نشأ الشيخ محمد إسماعيل الحائك خياطاً عامياً، ولكنه كان محباً للعلم، محباً للعلماء، فكان يحضر مجالسهم، ويجلس في حلقهم للتبرك والسماع، وكان يواظب على الدرس، ولا يفوته الجلوس في الصف الأول، فجعل الشيخ يؤنسه، ويلطف به لما يرى من دوامه وتبكيره، ويسأل عنه إذا غاب، فشد ذلك من عزمه، فاشترى الكتب، وصار يحيي ليله في مطالعة الدرس، ويستعين على ذلك بالنابهين من الطلبة، واستمر على ذلك دهراً حتى أتقن علوم الآلة، وصار واحد زمانه في الفقه والأصول، وهو عاكف على مهنته لم يتركها، وصار الناس يأتونه في محله يسألونه عن مشكلات المسائل، وعويصات الوقائع، فيجيبهم بما يعجز عنه فحول العلماء، وانقطع الناس عن المفتي من آل العمادي، وانصرفوا عن المفتي الرسمي العمادي إلى هذا الحائك الذي كان أعلم أهل بلده، فساء ذلك العماديين وآلمهم، فتربصوا بالشيخ وأضمروا له الشر، ولكنهم لم يجدوا إليه سبيلاً، فقد كان يحيا من عمله، ويحيا الناس بعلمه، وكان يمر كل يوم بدار العماديين في القيمرية، وهو على أتان له بيضاء، فيسلم فيردون عليه السلام، فمر يوماً كما كان يمر، فوجد على الباب أخاً للمفتي، فرد عليه السلام فقال له ساخراً: إلى أين يا شيخ؟ أذاهبٌ أنت إلى إستانبول لتأتي بولاية الإفتاء؟! -يعني: أنه أراد أن يعيره بأنه ليس هو المفتي، وأن المفتي هو أخوه، وإنما هو متطفل على مقام الإفتاء-وضحك وضحك من حوله، أما الشيخ فلم يزد على أن قال: إن شاء الله.

وهنا وقفة، ربما كانت السخرية أحياناً سبباً عظيماً من أسباب التحدي، فأنا أعرف مدرساً للغة الفرنسية كان يثبط طالباً دائماً، ويقول له: أنت غير نافع، وغير فالح إلى آخر هذه العبارات المشهورة من المدرسين المقصرين في هذا الجانب، فإنهم يفعلون هذه الأفاعيل، ولا يفطنون إلى خطر عواقبها، فهذا الطالب عزم على أن يتقن اللغة الفرنسية أشد الإتقان، وبالفعل تفوق وأتى بدرجات عالية، ودخل كلية الآداب، وتخصص في اللغة الفرنسية، وصار مدرساً للغة الفرنسية بعد أن كان ضعيفاً جداً فيها.

الشاهد: أن السخرية والتثبيط إذا أخذ بنوع من التحدي قد تصعد به الهمة، وممكن أن هذا الكلام يثبط، وذلك حسب نفسية الطفل، وحسب البيئة التي حوله، وحسب التشجيع، فيمكن أن يتحول الأمر من سخرية إلى تحدي، حتى يثبت لنفسه ولهذا الشخص الذي يحتقره أنه جدير بالاحترام، وجدير بألا يكون كما يصفه.

ونعود إلى القصة الأولى: لما سخر منه العماديون، وقال له أخو المفتي: إلى أين يا شيخ! أذاهب أنت لتأتي بوالية الإفتاء؟! وضحك وضحك من حوله، الشيخ لم يزد على أن قال: إن شاء الله، فماذا فعل؟ استمر في طريقه وهو راكب الأتان، حتى إذا ابتعد عنهم دار في الأزقة حتى عاد إلى داره، فودع أهله وأعطاهم نفقته وسافر متجهاً إلى إستانبول، وما زال يفارق بلداً ويستقبل بلداً حتى دخل القسطنطينية، فنزل في خان قريب من دار المشيخة العثمانية، وكان يجلس على الباب يطالع في كتاب أو يكتب في صحيفة، فيعرف من زيه أنه عربي، ويحترمونه ويجلونه، ولم يكن الترك قد جنوا الجناية الكبرى بالحركة الكمالية، فكانوا يعظمون العربي؛ لأنه من أمة الرسول الأعظم الذي اهتدوا به، وصاروا به وبقومه ناساً، واتصلت أسباب الشيخ بأسباب طائفة منهم، فكانوا يجلسون إليه يحدثونه، فقال له يوماً رجل منهم: إن السلطان سأل دار المشيخة عن قضية حيرت علماءها، ولم يجدوا لها جواباً، والسلطان يستحثهم وهم حائرون ما عندهم جواب على السؤال، فهل لك أن تراها؛ لعل الله يفتح عليك بالجواب؟ قال: نعم، قال: سر معي إلى المشيخة، قال: باسم الله، ودخلوا على ناموس المشيخة -يعني: السكرتير- فسأله الشيخ محمد إسماعيل عن المسألة، فالسكرتير أو الناموس رفع رأسه فقلب بصره فيه بازدراء؛ لأن هيئة الشيخ وملابسه لم تكن على هيئة مرضية، فقد كان رجلاً لا يهتم بالمظهر، ولم تكن هيئة الشيخ بالتي ترضي، فألقاها إليه -يعني: رمى له بالمسألة وانصرف إلى عمله- فأخرج الشيخ نظارته، فوضعها على عينه فقرأ المسألة، ثم أخرج من منطقته -أي: الحزام- دواة، وهذه الدواة النحاسية الطويلة هي التي كان يستعملها العلماء وطلبة العلم للكتابة، والدفاع عن النفس، فاستخرج منها قصبة فبراها، وأخذ المقطع فقطعها، وجلس يكتب الجواب بخط نسخي جميل، حتى سود عشر صفحات، وما رجع في كلمة منها إلى كتاب، ودفعها إلى الناموس، ودفع إليه عنوان منزله وذهب، فلما حملها الناموس إلى شيخ الإسلام العثماني وقرأها كاد يقضي دهشة وسروراً من هذا العلم الذي وجده في هذه الأوراق، فقال للناموس: ويحك! من كتب هذا الجواب؟! قال: شيخ شامي من صفته كيت وكيت، قال: علي به، فجاء، فجعلوا يعلمونه كيف يسلم على شيخ الإسلام، وأن عليه أن يشير بالتحية واضعاً يده على صدره منحنياً، ثم يمشي متباطئاً حتى يقوم بين يديه، إلى غير ذلك من هذه الأعمال الطويلة التي نسيها الشيخ ولم يحفط منها شيئاً.

ودخل على شيخ الإسلام فقال له: السلام عليكم ورحمة الله، وذهب فجلس في أقرب المجالس إليه، وعجب الحاضرون من عمله، ولكن شيخ الإسلام سُرَّ بهذه التحية الإسلامية، وأقبل عليه يسأله حتى قال له: سلني حاجتك.

فقال: إفتاء الشام وتدريس القبة.

قال: هما لك، فاغد عليّ غداً.

فلما كان من الغد ذهب إليه، فأعطاه فرمان التولية، وكيساً فيه ألف دينار.

وعاد الشيخ إلى دمشق فركب أتانه، ودار حتى مر بدار العماديين، فإذا صاحبنا على الباب، فسخر منه وقال: من أين يا شيخ؟! فقال الشيخ: من هنا من إستانبول؛ أتيت بتولية الإفتاء كما أمرتني.

ثم ذهب إلى القصر فقابل الوالي بالفرمان، وسلّم الشيخ عمله في حفلة حافلة.

همم الرجال إذا مضت لم يثنها خدع الثناي ولا عوادي الذأم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015