تفسير قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى.)

قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115] .

قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى) .

أي: يخالف أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام من بعد ما تبين له طريق الصواب ومن بعد أن تبينت له أحكام الله وأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومعنى (يشاقق) : أي: يصبح في شق والرسول صلى الله عليه وسلم في شق، فهو في ناحية والرسول عليه الصلاة والسلام في ناحية أخرى، ورأيه في ناحية، والكتاب والسنة في ناحية أخرى، فمن يفعل هذا الفعل فيأخذ شقاً آخر غير شق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ويخالف ويعاند رسول الله صلى الله عليه وسلم، (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) ، ومن أهل العلم -كالإمام الشافعي رحمه الله تعالى- من احتج بهذه الآية على مشروعية الإجماع والعمل به، من قوله تعالى: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) ، وهذه المسألة عليها جماهير السلف والخلف، ومن العلماء -وهم قلة قليلة- من أبى الإجماع وقالوا: إنه يتبع كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، أما الإجماع فلا حجة فيه عندهم، فأجيب عليهم بأن الكتاب والسنة فيه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115] ، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا تجتمع أمتي على ضلالة) ، وألزموا بإلزامات فقيل لهم: هناك مسائل لا يسعكم فيها إلا أن تذعنوا للإجماع، وإلا أتيتم بمحدثٍ من القول مبتدعٍ، كما في مسألة تعدد الزوجات إلى أربع؛ إذ يقال فيها: ما الدليل على جواز الأربع فحسب؟ فإن قالوا: إن الله يقول: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] ، قيل لهم: ليس في الآية تحريم فوق الأربع، والواو أحياناً تقتضي الجمع وأحياناً تقتضي التخيير، فما الذي حملكم على أن تقولوا: إنها بمعنى التخيير؟ فإن قالوا: في الباب حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو أن غيلان الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فأمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطلق ستاً ويبقي أربعاً، قيل لهم: الحديث معل، فلم يبق في هذا الباب حجة إلا إجماع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك؛ إذ لم يرد أن أحداً من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج فوق أربع، فصرنا إلى اعتبار الإجماع لهذا، ومما ينبغي الإشارة إليه أن من العلماء من هو متسرع في ادعاء الإجماع، كـ ابن عبد البر والنووي رحمهما الله تعالى: فكلاهما رحمة الله عليهما متسرعان في ادعاء الإجماع.

إذاً: ثبت الإجماع عمل به، والإجماع على مراتب: فمن العلماء من يطلق الإجماع ويريد به إجماع الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمهم الله، فيقول: (أجمعوا) ويقصد به الأئمة الأربعة، ومنهم من يطلق الإجماع ويقصد به نوعاً خاصاً، ومنهم من يطلق الإجماع ويقصد به إجماع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ومنهم من يطلق الإجماع على إجماع أمة محمد عليه الصلاة والسلام كلها.

وأما مقالة الإمام أحمد المشهورة (من ادعى الإجماع فهو كاذب) فلا يراد بها إطلاقها، وإنما يراد بها إجماعاً من نوع معين، وإلا فكثير من الحنابلة نقلوا الإجماع في عدة مسائل، فإذا قصد في حكاية الإجماع المعتبرين المشهورين من أهل العلم فله ذلك.

والأئمة الأربعة رحمة الله عليهم أجمعين إذا أجمعوا على مسألة فرأيهم في الغالب مسدد موفق، لكن لا يكون دليلاً يعمل به؛ لأن هناك أئمة آخرون غير الأئمة الأربعة.

والحمد لله رب العالمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015