نبذة مختصرة عن والد الشيخ وعن منهجه في التعلم والتعليم

Q فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرجو إعطاءنا نبذة عن والدكم رحمه الله تعالى ومنهجه في التعلم والتعليم؟

صلى الله عليه وسلم باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد: ففي الحقيقة دائماً إذا سئلت عن منهج عالم أو شيخ فالأفضل أن تصرف الهمة لمن هو أكمل وأفضل وهو: نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، ينبغي دائماً لطلاب العلم وأهل العلم أن يتذكروا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهما وجدت من العلماء فإنك سترى البون شاسعاً بينهم وبين ما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فهم على خير وعلى مكانة، لكن ينبغي دائماً أن يكون حديثنا عن هذا الهدي الكامل والداعية إلى الله صلوات الله وسلامه عليه، الذي أثنى الله عليه من فوق سبع سماوات صلى الله عليه وسلم تسليماً، ولكن قد يكون ذكر بعض المعاصرين أو بعض من هم قريبون في هذا الزمان فيه عظة وعبرة خاصةً أن بعض طلاب العلم إذا ذكر له العلماء الأوائل يقول: تلك أمة قد خلت وكان الزمان فيه خير، وكان الناس فيهم الخير والبركة، ولكن في زماننا هذا قد يستبعد ذلك، فإذا ذكرت لهم نماذج قريبة فهذا له وقعٌ كبير، لكن مما أتذكر والسؤال مفاجئ، وكثيراً ما أحرج إذا فوجئت بالسؤال عن الوالد رحمه الله، لكن أشهد لله عز وجل أنني رأيت ما أقول، وسمعت ما أقول، والله شهيدٌ عما أحدث به، فأشهد لله أنه ما كانت الدنيا تزن عنده شيئاً، ومن أعظم ما وجدت فيه أنه لما انصرف قلبه عن الدنيا، بارك الله له في علمه، والعالم إذا وجدته قد صرف قلبه عن الدنيا فأخذ منها حاجته وانصرف إلى نفع الناس ونفع المسلمين فنعم والله العالم، فكان رحمه الله لا يبالي بقليل المال أو كثيره، ويأتيه الراتب، والله لا يمضي نصف الشهر -وهذا يسأله الله عنه ويحاسبه- بل ثلث الشهر إلا وهو يقترض رحمة الله عليه، هذه المائة لفلان، وهذه لفلان وهذه لفلان فيفرق ماله رحمة الله عليه، وكنت أتولى له الصدقات وهذا شيء رأيته بنفسي حيث أنه لا يبقي من راتبه شيئاً.

كانت الدنيا لا تسوى عنده شيئاً، حتى أنه ذات مرة من عجائب ما رأيت فيه: أنه كانت له مزرعة فحفر فيها بئراً بأكثر من مائة ألف، فلما حفر البئر وانتهى منه الحافر، جاء يقول له: إن البئر ليس فيها ماء، وهذه مصيبة عظيمة وليس بالشيء الهين، مائة ألف ولا يجد الإنسان فيها ماء فقال: هذا الرجل -يريد أن يهون على الوالد رحمة الله عليه- يقول: إن شاء الله مستقبلاً الماء سيكثر، وكان يريد أن يمهد، فقال له الوالد: حسبك يا بني -يخاطب هذا الرجل- والله لو ذهبت هذه المزرعة كلها فإني راضٍ عن الله، يعني لا تظن أن الأمر، أو الخطب كبير، إن جاء شيء فالحمد لله، ونريدها من مرضاة الله، وإن لم يأت شيء فما عند الله أعظم مما عندنا.

الشيء الثالث أنا أذكر نماذج دنيوية وقعت له، تترجم عما قلته.

أولاً: أن الدنيا لا تسوى عنده شيء، كان رحمه الله كثيراً ما يوصيني في المزرعة بأن أتصدق بثمر البستان، وأذكر أنه لا يأخذ من هذه المزرعة إلا قدر ما يحتاج لإصلاح المزرعة، فكنت استعين بعد الله عز وجل برجل، كان من حفظة كتاب الله عز وجل، ومن خيار من عرفتهم من الجماعة ديناً وخلقاً واستقامة، وكان زميلاً للوالد في طلب العلم، فكان يعرف الأيتام والأرامل، فهذا الرجل رحمة الله عليه كان يتولى الصدقات، فلما تولى صدقات الوالد رحمه الله توفي الوالد قبله، فأكثر من مرة يراه في بستانٍ عظيم وثمار وجنات ويقول: هذا كله لي، فكان من عاجل البشرى له رحمه الله بعد الموت، الرجل الذي كان يتصدق بدنيا الوالد، ويقيمها للفقراء والضعفاء إذا به يبشر بعد موته من عاجل البشرى بالرؤية الصالحة، كان يبشر ويقول: رأيته وهو في جنة، وتارةً يقول: أراه في بساتين خضراء، وفيها ثمار عجيبة فأقول: ما هذا؟ فيقول: هذا كله لي رحمه الله رحمةً واسعة.

ومما رأيته في العلم أنه كان رحمه الله لا يمكن أن يتكلم في مسألة إلا وهو يعلمها، أما الشيء الذي لا يعلمه لو يأتي الخلق على أن يدفعوه للتكلم فيه، لا يمكن أن يتكلم فيه بحرفٍ واحد، وما أعلمه تكلم فيه، رحمه الله برحمةٍ واسعة، يقول: هذا شيء لا أعلمه فلا يستحي أمام الناس والجمهور في الملأ والخاصة أن يقول لك: لا أدري لا أدري، وهذا لا شك أنه نعمة من الله على العالم أن يكون عفيفاً صادقاً ينبئ عن علمٍ صادق، وهذا هو العلم الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن يتكلم الإنسان عن علمٍ ومعرفة.

أما الأمر الثاني: فكان لا يضيع وقته، ولا يرضى لأحد أن يضيع وقته في القيل والقال، وهذا مشهود له رحمه الله حتى بين الجماعة لو خرجوا في نزهة أو طلعة، فإذا وجدهم في علم ومذاكرة جلس معهم، وإذا لم يجدهم في علمٍ انتحى جانباً وقل أن يخرج لنزهة أو مع الجماعة إلا ومعه الكتاب، فإذا رآهم على ذكر الله عز وجل جلس معهم، وإن رأى غيبةً أو نميمة نصح، فإن لم يُنتصح انسحب وجلس تحت شجرة حتى يطيب خواطرهم فيتربع ثم ينصرف رحمه الله وهو راشد.

أما الأمر الثالث: فكان شديداً في علمه، لا يسمح لجاهل أن يستطيل على العلم، كان متواضعاً وقريباً من الناس، لكن أن يأتي الجاهل لكي يستطيل على دين الله وشرع الله فلا، فكان إذا جاء العقلاني يدخل عقله في النصوص السمعية إذا بذلك الوالد الأليف القريب من الناس ينقلب كالأسد ولا يجامل الكبير ولا الصغير، ويقول له: اسكت هذا شيءٌ لا علم لك به، ولا تخض فيما لا علم لك به، ولو كان من أعلم الناس يتكلم في الدين أو الشرع بدون بينة ولا علم يرد عليه في وجهه، ولا يسمح لأحدٍ أن يتكلم بحضرته بعلمٍ لا يحسنه، فإذا جاء أحد يخوض بالعقلانيات في وسائل السمعيات كهره، وهكذا لو جاء الطالب يبحث ويتكلف في العلم ويتنطع في السؤال عن الأمور الغيبية وكيف يحدث هذا وكيف يقع كان رحمه الله يتغير ومن عجائب ما كان يفعله! كان في تفسيره رحمه الله إذا فسر، وقيل له: لِمَ ختمت بقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء:26]؟ ولماذا ختمت {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:240]؟ كان يمنع من هذا، ويقول: لا يُسأل عما يفعل، ولا يمكن للناقص أن يدرك الحكمة التي ختم الله عز وجل بها الآية على هذا الوجه، فكان يمنع أن يقال: ما هي الحكمة في ورود هذه الآية على كذا؟ يقول: هذا شيء لا تدركه العقول، لا يمكن أن يصل الإنسان إلى درجة معرفة هذه الأمور، وإنما يقول: من الفوائد المستفادة كذا، نعم من يجزم أنها حكمة، أو أنها هي التي من أجلها ورد النص؟ كذلك أيضاً مما كان رحمه الله يتحلى به في تعليمه للناس، أنه كان يحب طالب العلم الصادق، ويفتخر به، ويعطيه من وقته وجهده، وكان رحمه الله إذا رأى الصدق في الطلب أقبل عليك، وهذا يشجع كثيراً من طلاب العلم الصادقين في الطلب، ولا يحب من طالب العلم الكسل ولا الخمول، ولا يحب منه التعب ولا السآمة ولا الملل، رحمه الله.

كان له درس بعد صلاة الفجر في التفسير، ودرس بعد الظهر في صحيح البخاري، ودرس بعد المغرب في السنن الصحاح، وختمها رحمه الله بسنن الترمذي وسنن أبي داود وابن ماجة، وكذلك أيضاً موطأ مالك ختمه، ثم بعد العشاء كان له درسه في الصحيحين وفي السنن، فكان رحمه الله طيلة هذه الأوقات يضحي ويبذل في العلم، لكن أن تأتي وتشتكي له الضعف والخور في طلب العلم فإنك تنزل من عينه، فلا يحب طالب العلم ولا يجله إلا إذا رآه صادقاً قوي العزيمة، فربما طرأت مسألة فآتيه بعد العشاء وهو مجهد -منهك والله يشهد على ما أقول هذه أشياء عايشتها بنفسي- فآتيه بالمسألة فأسأله، وكان منهجه معي في آخر حياته رحمه الله أنه ما كان يفتيني، ويقول لي: اذهب وأت بكتاب كذا ثم اقرأ من صفحة كذا، أو اقرأ من باب كذا، فإذا قرأت يقول: ماذا تفهم كأنه يدربني على الاستفادة من الكتب مباشرة، فكان رحمه الله آتيه بالكتاب والكتابين والثلاثة والأربعة، وهو منهك مجهد وآتيه بالكتاب فيقول لي: هذا ما يكفي اذهب إلى كتاب كذا، وأتِ بشرح كذا، ورد هذا وأتِ بكذا، أنا بنفسي أمل وأتعب وأجد نوعاً من الثقل ومع ذلك الرجل لا يسأم ولا يمل، وأقول له: انتهيت؟ يقول: لا حتى تنتهي، رحمه الله رحمة واسعة.

إذا أتقن العالم علمه فإنه يجد لذة العلم وفضله وبركته، نسأل الله العظيم أن يرزقنا من فضله، فضل الله عز وجل لا يتوقف على عصر من العصور كما قال ابن المنير: وفضل الله واسع، فمن ظن أنه محصور في بعض العصور فقد حجَّر واسعاً والليالي حبالى، يلدن كل غريبٍ، وكم ترك الأول للآخر.

إذا ذكرنا تراجم العلماء أو تراجم الفضلاء، أو قرأت سير أعلام النبلاء ورأيت هذه النماذج الكريمة، فاعلم أن الكل بفضل الله جل جلاله، وأن الأمر كله يعود على الإخلاص، وأن الله قد يعطيك مثلهم ويزيدك من فضله، متى؟ إذا أخلصت لوجهه وأحسنت الظن معه، قال صلى الله عليه وسلم: (من يصدق الله يصدقه) كان ابن عباس رضي الله عنهما قليلاً في العلم، ولكن لما صدق مع الله في طلب العلم وجدَّ واجتهد فعندما دفن أبو هريرة زيد بن ثابت رضي الله عنه بكى أبو هريرة وقال: [لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً، ولعل الله أن يجعل لنا في ابن عباس خلفاً] كان في البداية لا شيء، لكن لما جد واجتهد أعطاه الله، فأنت إذا صدقت مع الله، وأخلصت لوجه الله فإن الله يرزقك، نسأل الله العظيم أن يبلغنا ذلك الفضل بفضله وهو أرحم الرحمين، والله تعالى أعلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015