مأساة كوسوفا المسلمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وعبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، لم يعلم سبيل خير إلا دل أمته عليه، وما علم من سبيل شر إلا وحذر أمته منه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله عز وجل بمنه وكرمه، وأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، واسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، أن يجعلنا وإياكم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، وأن يكتب لنا ولكم شهادة الملائكة المقربين، أننا اجتمعنا في بيت من بيوته لا نريد إلا وجهه، نثني عليه الخير كله، نعبده وحده لا شريك له ولا نكفره، ونخلع ونترك من يكفره، ونرجو رحمته ونخشى عذابه، إن عذابه الجد بالكفار ملحق.

أيها الأحبة! لئن تعددت وتنوعت وسائل إبلاغ المعلومات والفوائد، ولئن تيسر لكثير منا أن يستدرك ما فات من الخطب والمحاضرات والندوات من خلال الإذاعات والأشرطة والتسجيلات، فإن فضلاً لا يوجد إلا في هذه المساجد، وإن ثواباً لا يتحقق إلا بالاجتماع في هذه الرياض، وإن درجات ونعيماً لا يدركه إلا أنتم وأمثالكم ممن يسعون ليرتعوا في رياض الجنة، ولتحلق أرواحهم في طلب الرحمة، وتسبيح الخالق سبحانه وتعالى في هذه المساجد، لأن فضل حلق الذكر مرتبطٌ بالاجتماع في بيوت الله عز وجل، ولئن تيسر -كما قلت- أن يستدرك العبد ما فات من معلومات إلا أن فضل حلق الذكر يبقى، تختص وتتميز به بيوت الله عز وجل، لذا فإني أوصي نفسي وأحبابي والسامعين أجمعين مهما تباينت مراتبهم في العلم، واختلفت درجاتهم في المعرفة، ألا يحرموا أنفسهم ثواب حلق الذكر، ورياض الجنة؛ حيث تشهد لهم الملائكة، وتتنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، ويذكرهم الله في ملئه الأعلى.

أحبتنا في الله! ولئن كان الحديث في سلسة المحاضرات التي نوه عنها فضيلة المقدم جزاه الله خيراً موصولاً بالكلام عن الأسرة المسلمة، إلا أن حديثنا اليوم وإن كان متعلقاً على وجه الخصوص بالحديث عن (النكاح وآدابه وأحكامه) أو بشيء وطرف من ذلك، إذ المقام لا يستوعب أحكام ذلك كله، ولكن هذا أحسبه وأرجو ألا يشغلنا وإياكم عما لا تزال الفاجعة في قلوبنا بسببه، وهي كارثة لم يسبق لها مثيل حلت بالمسلمين الألبان في كوسوفا نستذكرها، ونحمد الله على ما من به علينا من النعم، ونسأل الله بمنه وكرمه أن يرفع الكربة عن إخواننا، هذه الفاجعة التي ليس لها من دون الله كاشفة، قرابة المليون مسلم من أصل ألباني يهجرون على يد الصرب:

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ وما هو عنها بالحديث المرجمِ

أعراض تنتهك، وأشلاء تتناثر، ودماء بغير حق تسفك، وشعوب تشرد، ونساء ترمل، وأطفال يصبحون يتامى، ونساءٌ يشكين الثكل وفقد الزوج والمعين، والحال لا يصفها لسان، ولا يخطها قلم، فنسأل الله بمنه وكرمه أن يرفع الكربة عن المسلمين هناك، وعن المسلمين أجمعين.

أيها الأحبة! يقول تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126] كم مرة تحدثنا وصرخنا ورفعنا أصواتنا، وقلنا: قد فعل الأعداء بنا ما فعلوا، وكم مرة أخذنا نندب الماضي، ونخشى المستقبل، ونخاف من الواقع، ونحن كما قال الأول:

حرب حزيران انتهت وكل حرب بعدها ونحن طيبون

تغلغل اليهود في بلادنا ونحن راجعون

صاروا على مترين من أبوابنا ونحن عائدون

وصوت فيروز من الفردوس يأتي عائدون

وكل ما نملكه إنا إلى الله لراجعون

حرب حزيران انتهت جرائد الصباح ما تغيرت

والصور العارية النكراء ما تغيرت

هذا يقوله القائل وليس من أهل القول؛ ولكنه يبكي على ما حصل في (1967م)، نكبة (67) التي دمر اليهود فيها قوات عربية لا يخفى تاريخها عليه، وكما قال الذي يحاكي أبا تمام:

وأطفأت شهب الميراج أنجمنا وشمسنا وتحدت نارها الخطب

أيها الأحبة! ليست القضية هي ما ينظر إليه بعض المسلمين من جانب الحرب بين الصرب الأرثوذكس، والدوما والكتلة الروسية من جهة، وحلف الناتو من جهة أخرى، الذي يقض مضاجعنا، والذي يؤلمنا غاية الألم، هو حال المسلمين، أما ما سواهم فنسأل الله أن يهلك الظالمين بالظالمين، وأن يخرج أمة محمد من بينهم سالمين، نحن يسرنا ما نراه من ضربات موجعة في الصرب، ولكننا نعلم أن حفنة من الملايين أو قل: مليارات من الدولارات كفيلة بأن تعيد المنشئات الصربية والقواعد العسكرية، وليس هذا من باب التعاطف مع الصرب، بل نسأل الله أن يضاعف عليهم البلاء، وأن يزيد التسلط عليهم، ولكن من الذي يرد المسلمين الذين شردوا؟ إذا هاجر قرابة مليون مسلم، وتقاسمتهم قرابة عشرين دولة أوروبية، ولكل دولة منهم جزءٌ مقسوم، وكل دولة تفرق هؤلاء في مدن شتى، وكل مدينة تشتت المسلمين في أحياء متباينة، ثم اسأل وتعرف بعد خمس سنوات، أو بعد عشر سنوات، هل ترى من المسلمين أحداً؟ هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً بعد هذا الانتشار وهذا التناثر، وبعد هذا التطاير؟ هذه هي القضية الكبرى؛ لأن الكفار ليس لهم وزن في ميزان الشرع، ودماؤهم كما علمنا في ديننا ليست بأمر ذي بال، أما دماء المسلمين فلأن تزول السماوات والأرض أهون عند الله من أن يراق دم مسلم.

المسألة في غاية الخطر، وإن الذي يتابع ما يعرض وينشر من لقاءات وحوارات ومناظرات وتحليلات وكتابات ليعجب من تباين بعض المسلمين في نظراتهم، فهذا لا يزال يؤيد الصرب، وهذا لا يزال يرى أن المسلمين الآن في منتهى النصر والنشوة، أي نشوة وأي نصر لأناس يتفرقون ويشتتون؟! وكما قال الرندي حينما بكى الأندلس:

يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواحٌ وأبدانُ

وطفلة ما رأتها الشمس إذ بزغت كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ

يقودها العلج للمكروه مكرهةً والعين باكية والقلب حيرانُ

لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلام وإيمانُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015