الثانية: أن يتوسل إلى الله بالعمل الصالح

فتقول: اللهم إني أسألك بصيامي شهر رمضان، ما نظرت فيه إلى محرم، وما استمعت فيه غيبة، واجتهدت في الصلاة خلف الإمام، وما انصرفت من التراويح إلا مع الإمام، أسألك اللهم إني عملت ذلك خالصاً لوجهك أن تحقق لي ما أرجو، تقول ذلك سراً بينك وبين الله، تتوسل إلى الله بعملك، فإن هذا من التوسل المشروع.

ودليله ما جاء في الصحيحين في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوا وباتوا فيه، فانحدرت صخرة من الجبل فأطبقت عليهم الغار، فقال بعضهم لبعض: إنه لن يخرجكم ولن ينجيكم مما أنتم فيه إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال الأول: اللهم إنك تعلم أنه كانت لي ابنة عم، وكنت أراودها فتتمنع علي، فجاءتني في عام سنة وجدب وقحط وطلبت مني المال، فقلت لها: لا أعطيك المال حتى تمكنيني من نفسك، فقبلت محتاجة، ثم إني لما دنوت منها، وتمكنت منها تمكن الرجل من زوجته، وقبل أن أفعل بها بكت وقالت: اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت عنها خوفاً منك وخشية لك، اللهم إني إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك وخوفاً منك ورغبة فيما عندك فافرج عنا ما نحن فيه، وهي حال عجيبة أن يكون الإنسان في ذروة تلبسه بالمعصية وقبل الشروع المباشر في حقيقتها، يخوف بالله، فينزعج ويضطرب خوفاً من الله ويترك ما هو عليه.

قال: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك وخوفاً منك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة قليلاً عن الغار، إلا أنهم لا يستطيعون أن يخرجوا منه.

فقال الثاني: اللهم إنك تعلم أن لي والدين لا أغبق قبلهما ولداً ولا صاحباً، وإني خرجت عشية في طلب الغبوق فتأخرت عليهما، فجئت ووالدي قد ناما، قد باتا، والصبية يتضاغون يبكون يصيحون يتصايحون من العطش والجوع فقلت: والله لا أغبق قبل والدي ولداً ولا صاحباً، فترك الصبية يبكون براً بوالديه ألا يغتبق أحد قبل والديه.

انظروا بركة بر الوالدين يا عباد الله! وليسمع هذا أولئك الذين يبرون في زوجاتهم ويعقون آباءهم وأمهاتهم، وليسمع هذا أولئك الذين يتهربون عن والديهم ويبتعدون عن آبائهم وأمهاتهم، متى؟ في وقت العطاء والخير، حينما يقبل خير الفتى ويدبر شره، ويكثر صلاحه ويقل فساده، يقع في فساد عظيم يدبر عن والديه، ليتخلى ويتفرد بابنة الناس ليعطيها بره وخيره، ويغفل عن والديه الأيام والليالي ذوات العدد، فإنا لله وإنا إليه راجعون! قال: فإني ما غبقت قبلهما ولداً ولا صاحباً، حتى أصبح والدايَّ فاغتبقا وشربا من الحليب، ثم بعد ذلك أطعمت زوجي وولدي، اللهم إني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه.

توسل إلى الله ببره بوالديه، والأول توسل إلى الله بتركه المعصية.

فانفرجت الصخرة شيئاً أكثر من الأول إلا أنهم لا يستطيعون أن يخرجوا منه.

فقال الثالث: اللهم إنك تعلم أني استأجرت أجيراً فولى ولم يقبض أجرته، ثم إني نميتها وحفظتها له، فجاء إليَّ بعد زمن وقال يا فلان: أعطني أجرتي؟ فقلت: أتنظر ما في هذا الوادي من النعم أو من المال؟ فقال: نعم، فقلت: هذه أجرتك فخذها، فقال: أتهزأ بي؟ أتسخر بي؟ لأن الأجير ذهب وأجرته شيء قليل، لكن ذلك نمّى الأجرة وحفظها لصاحبها، وقال: هذه أجرتك خذها واستقها، فأخذ الرجل أجرته داعياً وشاكراً، قال الثالث: اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء ما عندك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة حتى خرجوا جميعاً.

فانظروا بركة التوسل إلى الله بالعمل الصالح، والنبي صلى الله عليه وسلم قص هذه القصة لأصحابه، ولو كان التوسل إلى الله بالأنبياء أو بالصالحين أمراً مشروعاً لقال: توسلوا إلى الله بي بعد موتي، أو لقال صلى الله عليه وسلم: توسلوا بحبيبي أبي بكر الصديق، وتوسلوا بشهيد المحراب، والإمام الأواب عمر بن الخطاب، ولكنه صلى الله عليه وسلم ذكر لهم أن التوسل يكون بالعمل الصالح، ولو كان التوسل بالأنبياء أو بذاته أو بشخصه أو بجاهه، كما يقول كثير من الناس: أسألك بجاه النبي، أسألك بجاه النبي، أسأل الله جل وعلا، وإن كنت صادقاً في حب النبي فاتبع ما يقول النبي ولا تتقدم عنه ولا تتأخر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015