لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْأَرْبَعِ الَّتِي آخِرَهَا الْحَجُّ وَمِمَّا يُنَاسِبُهُ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ وَالصَّيْدِ وَالذَّبَائِحِ شَرَعَ الْآنَ فِي خَامِسَةِ الْعِبَادَاتِ وَهِيَ الْجِهَادُ فَقَالَ (هُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ بَدْءًا) أَيْ ابْتِدَاءً يَعْنِي يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَبْدَأَهُمْ بِالْقِتَالِ وَإِنْ لَمْ يُقَاتِلُونَا فَإِنَّ الرَّسُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَأْمُورًا فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ بِالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر: 85] وقَوْله تَعَالَى {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] ثُمَّ أَمَرَ بِالدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ الطُّرُقِ الْمُسْتَحْسَنَةِ حَيْثُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ثُمَّ أَمَرَ بِالْقِتَالِ إذَا كَانَتْ الْبِدَايَةُ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] أَيْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الدَّفْعِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْقِتَالِ ابْتِدَاءً فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] ثُمَّ أَمَرَ بِالْقِتَالِ مُطْلَقًا فِي الْأَزْمَانِ كُلِّهَا وَالْأَمَاكِنِ بِأَسْرِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] ، وَ {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 29] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ.

وَجْهُ كَوْنِهِ فَرْضَ كِفَايَةٍ أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ لِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ وَإِفْسَادٌ فِي نَفْسِهِ بَلْ شُرِعَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازِ دِينِهِ وَدَفْعِ الْفَسَادِ عَنْ الْعِبَادِ فَحِينَئِذٍ (إنْ قَامَ بِهِ الْبَعْضُ) فِي كُلِّ زَمَانٍ (سَقَطَ) الْفَرْضُ (عَنْ الْكُلِّ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَدَفْنِهَا وَرَدِّ السَّلَامِ فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْهَا إذَا حَصَلَ مِنْ بَعْضِ الْجَمَاعَةِ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ بَاقِيهَا (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ الْبَعْضُ بَلْ خَلَا عَنْ الْجِهَادِ وَالزَّمَانُ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ (أَثِمُوا) أَيْ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ لِتَرْكِهِمْ فَرْضًا عَلَيْهِمْ كَمَا إذَا تَرَكَ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ صَلَاةَ الْجِنَازَةِ أَوْ دَفْنَهَا أَوْ رَدَّ السَّلَامِ أَثِمُوا (إلَّا عَلَى صَبِيٍّ وَعَبْدٍ وَامْرَأَةٍ وَأَعْمَى وَمُقْعَدٍ وَأَقْطَعَ) ؛ لِأَنَّهُمْ عَاجِزُونَ وَالتَّكْلِيفُ بِالْقُدْرَةِ.

(وَ) فَرْضُ (عَيْنٍ إنْ هَجَمُوا) أَيْ هَجَمَ الْكُفَّارُ عَلَى ثَغْرٍ مِنْ ثُغُورِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى مَنْ قَرُبَ مِنْهُ وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْجِهَادِ.

نَقَلَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ عَنْ الذَّخِيرَةِ أَنَّ الْجِهَادَ إذَا جَاءَ النَّفِيرُ إنَّمَا يَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى مَنْ يَقْرُبُ مِنْ الْعَدُوِّ، فَأَمَّا مَنْ وَرَاءَهُمْ بِبُعْدٍ مِنْ الْعَدُوِّ فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَسَعَهُمْ تَرْكُهُ إذَا لَمْ يُحْتَجْ إلَيْهِمْ، فَإِذَا اُحْتِيجَ إلَيْهِمْ بِأَنْ عَجَزَ مَنْ كَانَ يَقْرُبُ مِنْ الْعَدُوِّ عَنْ الْمُقَاوَمَةِ مَعَ الْعَدُوِّ أَوْ لَمْ يَعْجِزُوا عَنْهَا لَكِنَّهُمْ تَكَاسَلُوا وَلَمْ يُجَاهِدُوا فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ فَرْضَ عَيْنٍ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ لَا يَسَعُهُمْ تَرْكُهُ ثُمَّ وَثُمَّ إلَى أَنْ يُفْتَرَضَ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ شَرْقًا وَغَرْبًا عَلَى هَذَا التَّدْرِيجِ، وَنَظِيرُهُ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْبَلْدَةِ فَعَلَى جِيرَانِهِ وَأَهْلِ مَحَلَّتِهِ أَنْ يَقُومُوا بِأَسْبَابِهِ، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ كَانَ بِبُعْدٍ مِنْ الْمَيِّتِ أَنْ يَقُومَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي بِبُعْدٍ مِنْ الْمَيِّتِ يَعْلَمُ أَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ يُضَيِّعُونَ حُقُوقَهُ أَوْ يَعْجِزُونَ عَنْهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِهِ، كَذَا هُنَا.

(فَتَخْرُجُ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ بِلَا إذْنٍ) مِنْ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِإِقَامَةِ الْكُلِّ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ وَحَقُّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ فَرْضِ الْعَيْنِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ النَّفِيرِ إذْ بِغَيْرِهِمْ كِفَايَةٌ فَلَا ضَرُورَةَ فِي إبْطَالِ حَقِّهِمَا.

(وَكُرِهَ الْجُعْلُ) وَهُوَ مَا يُجْعَلُ لِلْعَامِلِ فِي عَمَلِهِ وَالْمُرَادُ مَا يَجْعَلُ الْإِمَامُ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ شَيْئًا بِلَا طِيبِ أَنْفُسِهِمْ يَتَقَوَّى بِهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــQ «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامُهُ وَإِنْ مَاتَ فِيهِ أَجْرَى عَلَيْهِ عَمَلَهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ وَأَجْرَى عَلَيْهِ رِزْقَهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ زَادَ الطَّبَرَانِيُّ «وَبُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَهِيدًا وَمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا أَمِنَ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ» وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ صَلَاةَ الْمُرَابِطِ تَعْدِلُ خَمْسَ مِائَةِ صَلَاةٍ وَنَفَقَةَ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ مِنْهُ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعمِائَةِ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِهِ» كَمَا فِي الْفَتْحِ.

(قَوْلُهُ: وَفَرْضُ عَيْنٍ إنْ هَجَمُوا) كَذَا فِي الْكَنْزِ وَغَيْرِهِ وَهُوَ يَقْتَضِي الِافْتِرَاضَ عَلَى كَافَّةِ النَّاسِ سَوَاءٌ فِيهِ أَهْلُ مَحَلٍّ هَجَمَهُ الْعَدُوُّ وَغَيْرُهُمْ وَهُوَ صَرِيحُ مَا قَالَ فِي مُنْيَةِ الْمُفْتِي فِي النَّفِيرِ الْعَامِّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ الْخَبَرَ وَلَهُ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. اهـ.

وَقَالَ قَاضِي خَانْ: إنْ وَقَعَ النَّفِيرُ وَبَلَغَهُمْ الْخَبَرُ أَنَّ الْعَدُوَّ جَاءَ إلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْإِسْلَامِ كَانَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْرُجَ بِغَيْرِ إذْنِ الْأَبَوَيْنِ عِنْدَ الْخَوْفِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَى ذَرَارِيِّهِمْ أَوْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَإِذَا كَانَ النَّفِيرُ مِنْ قِبَلِ اللُّزُومِ فَعَلَى كُلِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْغَزْوِ إذَا مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّخَلُّفُ إلَّا بِعُذْرٍ بَيِّنٍ. اهـ.

فَالْمَتْنُ عَامٌّ وَقَدْ خَصَّهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فَيَصِيرُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى مَنْ قَرُبَ مِنْهُ وَهُمْ يَقْدِرُونَ عَلَى الْجِهَادِ، وَقَدْ نَقَلَ الْكَمَالُ مَا قَالَهُ فِي النِّهَايَةِ ثُمَّ قَالَ هَكَذَا ذَكَرُوا وَكَانَ مَعْنَاهُ إذَا دَامَ الْحَرْبُ بِقَدْرِ مَا يَصِلُ الْأَبْعَدُونَ وَبَلَغَهُمْ الْخَبَرُ وَإِلَّا فَهُوَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، بِخِلَافِ إنْفَاذِ الْأَسِيرِ وُجُوبُهُ عَلَى الْكُلِّ مُتَّجَهٌ مِنْ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مِمَّنْ عَلِمَ وَيَجِبُ أَنْ لَا يَأْثَمَ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ وَقُعُودُهُ لِعَدَمِ خُرُوجِ النَّاسِ وَتَكَاسُلِهِمْ أَوْ قُعُودِ السُّلْطَانِ أَوْ مَنْعِهِ. اهـ.

(فَائِدَةٌ) عَالِمٌ لَيْسَ فِي الْبَلْدَةِ أَفْقَهَ مِنْهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَغْزُوَ لِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ الضَّيَاعِ كَذَا فِي مُنْيَةِ الْمُفْتِي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015