وَقسم إِنَّمَا روحه هَيْئَة إذعان البهيمية للملكية بِأَن تتصرف حسب وحيها، وتنصبغ بصبغها، وتمنع الملكية مِنْهَا بألا تقبل ألوانها الدنية، وَلَا تنطبع فِيهَا نقوشها الخسيسة، كَمَا تنطبع نقوش الْخَاتم فِي الشمعة، وَلَا سَبِيل إِلَى ذَلِك إِلَّا أَن تَقْتَضِي الملكية شَيْئا من ذَاتهَا، وتوحيه إِلَى البهيمية، وتقترحه عَلَيْهَا، ومتنقاد لَهَا، وَلَا تبغي عَلَيْهَا، وَلَا تتمنع مِنْهَا، ثمَّ تَقْتَضِي أَيْضا، فتنقاد هَذِه أَيْضا، ثمَّ، وَثمّ حَتَّى تعتاد ذَلِك؛ وتتمرن، وَهَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي تقتضيها هَذِه من ذَاتهَا وتقسر عَلَيْهَا تِلْكَ على رغم أنفها إِنَّمَا يكون من جنس مَا فِيهِ انْشِرَاح لهَذِهِ وانقباض لتِلْك، وَذَلِكَ كالتشبه بالملكوت، والتطلع للجبروت، فَإِنَّهَا خَاصَّة الملكية بعيدَة عَنْهَا البهيمية غَايَة الْبعد، أَو يتْرك مَا تَقْتَضِيه البهيمية، وتستلذه، وتشتاق إِلَيْهِ فِي غلوائها.

وَهَذَا الْقسم يُسمى بالعبادات والرياضات وَهِي شركات تَحْصِيل الْفَائِت من الْخلق الْمَطْلُوب، فآل تَحْقِيق الْمقَام إِلَى أَن السَّعَادَة الْحَقِيقِيَّة لَا تقتنص

إِلَّا بالعبادات، وَلذَلِك كَانَت الْمصلحَة الْكُلية تنادي أَفْرَاد الْإِنْسَان من كوَّة الصُّورَة النوعية، وتأمرها أمرا مؤكدا أَن تجْعَل إصْلَاح الصِّفَات الَّتِي هِيَ كَمَال ثَان بِقدر الضَّرُورَة، وَأَن تجْعَل غَايَة همتها ومطمح بصرها تَهْذِيب النَّفس وتحليتها بهيآت تجعلها شَبيهَة بِمَا فَوْقهَا من الْمَلأ الْأَعْلَى مستعدة لنزول أكوان الجبروت والملكوت عَلَيْهَا، وَأَن تجْعَل البهيمية مذعنة للملكية مطيعة لَهَا منصة لظُهُور أَحْكَامهَا.

وأفراد الْإِنْسَان عِنْد الصِّحَّة النوعية، وتمكين الْمَادَّة لظُهُور أَحْكَام النَّوْع كَامِلَة وافرة تشتاق إِلَى هَذِه السَّعَادَة وتنجذب إِلَيْهَا انجذاب الْحَدِيد إِلَى المغناطيس، وَذَلِكَ خلق خلق الله النَّاس عَلَيْهِ، وفطرة فطرهم عَلَيْهَا، وَلِهَذَا مَا كَانَ فِي بني آدم أمة من أهل المزاج المعتدل إِلَّا فِيهَا قوم من عظمائهم يهتمون بتكميل هَذَا الْخلق، ويرونه السَّعَادَة القصوى، ويراهم الْمُلُوك والحكماء فَمن دونهم فائزين بِمَا يجل عَن سعادات الدُّنْيَا كلهَا، ملتحقين بِالْمَلَائِكَةِ، منخرطين فِي سلكهم، حَتَّى صَارُوا يتبركون بهم، ويقبلون أَيْديهم وأرجلهم، فَهَل يُمكن أَن يتَّفق عرب النَّاس وعجمهم على اخْتِلَاف عاداتهم وأديانهم وتباعد مساكنهم وبلدانهم على شَيْء، وَاحِد وحدة نوعية إِلَّا لمناسبة فطرية، كَيفَ لَا وَقد عرفت أَن الملكية مَوْجُودَة فِي أصل فطْرَة الْإِنْسَان، وَعرفت أفاضل النَّاس وأساطينهم من هم، وَالله أعلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015