(الْجَنَائِز)

اعْلَم أَن عيادات الْمَرِيض وتمسكه بالرقى الْمُبَارَكَة. والرفق بالمحتضر. وتكفين الْمَيِّت وَدَفنه، والاحسان إِلَيْهِ والبكا عَلَيْهِ وتعزية أَهله. وزيارة الْقُبُور أُمُور تتداولها طوائف الْعَرَب، وتتوارد عَلَيْهَا أَو على نظائرها أَصْنَاف الْعَجم، وَتلك عَادَة لَا يَنْفَكّ عَنْهَا أهل الأمزجة السليمة، وَلَا يَنْبَغِي لَهُم أَن ينفكوا، فَلَمَّا بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر فِيمَا عِنْدهم من الْعَادَات فأصلحها، وَصحح السقيم مِنْهَا.

والمصلحة المرعية إِمَّا رَاجِعَة إِلَى نفس الْمُبْتَلى من حَيْثُ الدُّنْيَا، أَو من حَيْثُ الْآخِرَة، أَو إِلَى أَهله من إِحْدَى الحيثيتين، أَو فِي الْملَّة، وَالْمَرِيض يحْتَاج إِلَى حَيَاته الدُّنْيَا إِلَى تَنْفِيس كربته بالتسلية والرفق، وَإِلَى أَن يتَعَرَّض النَّاس لمعاونته فِيمَا يعجز عَنهُ، وَلَا يتَحَقَّق إِلَّا أَن تكون العيادة سنة لَازِمَة فِي إخوانه وَأهل مدينته، وَفِي آخرته يحْتَاج إِلَى الصَّبْر، وَأَن يتَمَثَّل الشدائد عِنْده بِمَنْزِلَة الدَّوَاء المر يعاف طعمها، ويرجو نَفعهَا لِئَلَّا يكون سَببا لغوصه فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا واحتجابه والتنحي عَن ربه، بل مؤيدة فِي حط ذنُوبه مَعَ تحلل أَجزَاء نسمته، وَلَا يتَحَقَّق إِلَّا بِأَن يُنَبه على فَوَائِد الصَّبْر وَمَنَافع الآلام والمحتضر فِي آخر يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا، وَأول يَوْم من أَيَّام الْآخِرَة، فَوَجَبَ أَن يحث على الذّكر والتوجه إِلَى الله لتفارق نَفسه - وَهِي فِي غاشية من الْإِيمَان - فيجد ثَمَرَتهَا فِي معاده، وَالْإِنْسَان عِنْد سَلامَة مزاجه كَمَا جبل على حب المَال والأهل كَذَلِك جبل على حب أَن يذكرهُ النَّاس بِخَير فِي حَيَاته وَبعد مماته، وَألا تظهر سوأته لَهُم حَتَّى إِن أَسد النَّاس رَأيا من كل طَائِفَة يجب أَن يبْذل أَمْوَالًا خطيرة فِي بِنَاء شامخ يبْقى بِهِ ذكره، ويهجم على المهالك؛

ليقال لَهُ من بعده: أَنه جرئ، ويوصي أَن يَجْعَل قَبره شامخا ليقول النَّاس: هُوَ ذُو حَظّ عَظِيم فِي حَيَاته وَبعد مَوته، وَحَتَّى قَالَ حكماؤهم: إِن من كَانَ ذكره حَيا فِي النَّاس، فَلَيْسَ بميت، وَلما كَانَ ذَلِك أمرا يخلقون عَلَيْهِ ويموتون مَعَه كَانَ تَصْدِيق ظنهم وإيفاء وعدهم نوعا من الْإِحْسَان إِلَيْهِم بعد مَوْتهمْ.

وَأَيْضًا إِن الرّوح إِذا فَارَقت الْجَسَد بقيت حساسة مدركة بالحس الْمُشْتَرك وَغَيره، وَبقيت على علومها وظنونها الَّتِي كَانَت مَعهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، ويترشح عَلَيْهَا من فَوْقهَا عُلُوم يعذب بهَا أَو ينعم، وهمم الصَّالِحين من عباد الله ترتقي إِلَى حَظِيرَة الْقُدس فَإِذا ألحوا فِي الدُّعَاء لمَيت، أَو عانوا صَدَقَة عَظِيمَة لأَجله وَقع ذَلِك بتدبير الله نَافِعًا للْمَيت، وصادف الْفَيْض النَّازِل عَلَيْهِ من هَذِه الحظيرة، فأعد لرفاهية حَاله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015