وكان إذن على نفسي دعائي

وكنت كالمتمنى أن يرى قمراً ... من السماء فلما أن رآه عَمِيْ

فلما بدا لي منه ما رأيت، علمت أن طبعه استحال، وتذكرت قول من قال:

وكلّ ولايةٍ لابدَّ يوماً ... مغيِّيرةُ الصديقِ على الصديق

وتذكرت قولهم: " أرض من صاحبك إذا ولي ولاية بعشر ودِّه قبلها "، كما شاع ذلك في الأقوال السائرة، وعلمتُ أن ودِّه صار كودِّ من " خربت بيتاً مهاجرة ".

ثم فارقت أهالي ذلك القضا، وهم راضون مني كمال الرضا، تأسفوا على عزلي تأسفاً كثيراً، وأجروا على فراقي دمعاً غزيراً، فعند ذلك حمدتث الله تعالى على السرّاء والضراء وقلت " سيجعل الله بعد عسر يسرا " وقلت مضمنا:

إن كان منصبُ حُكْمي زالَ في زمَنٍ ... عنّي فمنصبُ فضلي الدهرَ لم يَزُل

وغن علانيَ من دوني فلا عَجَبٌ ... لي أسوةٌ بانحطاطِ الشمسِ عن زحل

ثم توجهتُ لتسليمِ ما كنتُ جمعتُهُ من مالِ العوارض لحضرةِ الدفتردار بدمشق الشام فأتيتها في أوائل شهر رمضان، فما اتفق لي أني اجتمعت في مجلس المحاسبجي بمحيي أفندي القاضي يومئذ بحوران، فوقع في المجلس حجة ممضاةٌ بإمضاء الفقير فيها ما لفظه القاضي بالقدموس من الأعلام، وأنه مما يمتنع أن يدخله اللام، فخلتُ أنه في المقام الأبتدائي من الإنكار، وأجبت عن اعتراضه بما ذكره علماءُ العربيةِ على وجه الإختصار، مقتصراً على قدر الحاجة حَذَراً عن اللغو في الكلام، واستغنيت عن تأكيد الحكم بمؤكدات حسب ما يقتضيه المقام، فكان المشار إليه لم يقنع بما به أجيب، وذكر هذه الواقعة لبعض الأفاضل زاعماً اني مخطئ وأنه مصيب. فلما تحققت أنه مصرٌ على غنكار ما قلته تصريحاً وضمناً، وأنه وَصَلَ في مقامِ الغنكارِ إلى مرتبةِ النفي والاستثنا، اقتضى الحالُ أن يخرج الكلام على مقتضى الظاهر، ويؤكد الحكمُ بما يسمحُ الفكر الفاتر والذهنث القاصر. وكتبتُ في ساعةٍ من ذلك النهار رِسالةص مختصرة، بديعة محرّرة، أولها: باسمك يا من تنزَّه في فعله عن الاعتراض، وتقدَّس عن المحلِّ في كلِّ حال ومستقبل وماضوتوحَّدَ بقدموس ذاتِهِ وصفاتِهِ عن الشبيه والنظير، وتعالى في ملكه عن العين والظهير، صلّ على سيدنا محمدٍ افصح من نَطَقَ الضاد، وعلى آله وأصحابه الامجاد، ما طلب العاملُ معموله، ورفع الفعلُ فاعله ونصبَ مفعوله. وخلاصتها انه قال صاحبُ القاموس، رحمه الله تعالى وأفاض عليه شآبيب مغفرة تسحُّ وتتوالى: القدموس كعصفور القديم، والملك الضخم والعظيم من الغبل، انتهى. أقول: فعلى هذا يكون القدموسُ من الاعلام الغالبة لانه كان في الاصل لجنس القديم، ثم كثر استعماله لهذه البلدةِ المخصوصة قبل العلمية مع لام العهد ليفيد الاختصاص بهِ وصار لكثرة الاستعمال لها عَلَما، كما لا يخفى على ذي الفهم السليم. قال الرضي: ويسمَّى هذا القسم من العلم، العلم الاتفاقي فتكون اللام في مثله لازمة لانه لم يصر علماً مع اللام، فصارت كبعض حروف ذلك العلم كالنجم والبيت والمدينة حيث ما غلب استعمالها على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم. فهي مشابهة اليوم للأمس، ومطابقةٌ لها مطابقةَ الخمس للخمس. وذكرت فيهلا أموراً اقتضى الشأن أن تذكر لمناسبة المقام والحال رأيت انّ ذكرها ها هنا برمّتها غيرُ مناسب، فان لكلِّ مقامٍ مقال، فكانت الرسالة المذكورة دليلاً قاطعاً لكلامه، وحجّةً قائمة بإسكاته وإلزامه.

ثم غني أقمتُ في دمشق المحمية مدةً وأنا معزول، وحدسَ في فكري التوجهُ إلى استنبول، وكنتُ بين إقدام وإحجام، وترددتُ في هذا الأمر بعضَ أيام، وتشاورتُ مع الأصحاب رفع الله تعالى لهم قدراً، فمنهم من مال إلى التحذير ومنهم من مال إلى الإغرا، وبعضهم رغَّبني وصوّب رأيي وسدَّد، وبعضهم رهَّبني وأنشد:

يا من غدا في طلاب العلم مجتهدا ... لم يثنه عنه لا مالٌ ولا وَلَدُ

لا تبسطنَّ لتقليدِ القضاءِ يداً ... أيرتضي رتبةَ التقليدِ مجتهدُ

فقلت: للائم بواسطة هذا اللوم وسببه:

لابد للمرء من مالٍ يعيشُ بِه

وأنشدته:

ياذا الذي اصبح لي لائماً ... أنسيت ما قُدِّر في الماضي

أن الذي ساقك لي واعظاً ... هو الذي صيَّرني قاضي

والله ما أخترتُ سوى وصله ... فاختار ان يعكسَ أغراضي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015