تفسير قوله تعالى: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا)

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

ذكر الله عز وجل صفات عباد الرحمن في سورة الفرقان، ثم ختم هذه السورة بقوله سبحانه: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان:75 - 77].

في هذه الثلاث الآيات الأخيرة من هذه السورة الكريمة يذكر الله سبحانه وتعالى جزاء عباد الرحمن، بعد أن ذكر صفاتهم قبل ذلك، من حسن الخلق، وحسن المعاملة، والعبادة لله سبحانه، والتخلي عن الشرك بالله سبحانه، وعن كبائر الآثام والذنوب، فذكر الله عز وجل من صفاتهم في هذه السورة إحدى عشرة صفة، فذكر التواضع، وذكر الحلم، وذكر التهجد، وأنهم يقومون من الليل، وذكر خوفهم من الله سبحانه وتعالى، وذكر من تركهم الإسراف والتقتير، وذكر أنهم نزهوا أنفسهم عن أن يشركوا بالله أو أن يقعوا في الزنا، أو أن يقعوا في القتل، وذكر أنهم يتوبون إلى الله سبحانه، وذكر أنهم يجتنبون الكذب وشهود الزور، وأنهم يعفون عن المسيء، وأنهم يقبلون الموعظة، ويطيعون من يعظهم ويذكرهم بالله سبحانه، وأنهم يبتهلون إلى الله داعين راغبين راهبين يرجون من الله عز وجل أن يصرف عنهم عذاب جهنم، وكأنهم يستشعرون الورود فيها، فيطلبون من الله أن يصرفها عنهم، وكذلك يطلبون من الله سبحانه في دعاء جميل: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]، وهذا الدعاء فيه الحكمة وفيه ذكاء هؤلاء في الطلب، فهم يطلبون ما ينفعهم دنيا وأخرى، {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]، فتقر أعيننا وتستقر قلوبنا بذلك في الدنيا وفي الآخرة، في الدنيا يفرحون بما يكون عليه أزواجهم، وبما تكون عليه ذرياتهم من طاعة الله سبحانه ومن حسن الخلق ومن حسن الصورة، فيطلبون من الله عز وجل أن يرزقهم هذه الذرية الصالحة والزوجات الصالحات، وينتفعون في الدنيا بذلك، وينتفعون يوم القيامة أيضاً بالأعمال الصالحة، فالزوجة الطيبة المطيعة لله سبحانه ينتفع بها زوجها يوم القيامة، وتكون زوجته في الجنة، ومن خير نسائه في الجنة، كذلك أحدهما يشفع في الآخر، وأحدهما يرفع الآخر، كذلك الذرية الطيبة، فينتفع الإنسان المؤمن بذريته الطيبة، فيكون له أجر تلك الذرية ما وجدوا على الأرض حتى تقوم الساعة.

ثم ذكر الله عز وجل جزاء هؤلاء فقال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان:75]، فيجزيهم الله سبحانه أفضل الجزاء، وهي: الغرفة، والغرفة: الحجرة التي تكون للإنسان وهي عالية، فتطلق الغرفة على المكان العالي، خلافاً لما تعارفنا عليه، فهؤلاء لهم الغرفة عند ربهم، يعني: أعالي الجنة، الفردوس الأعلى من الجنات، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.

قال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، يعني: الدرجة الرفيعة، وأعلى منازل الجنة، وأفضل منازل الجنة، كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا.

يقول الله سبحانه: {يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75]، أي: بسبب صبرهم، فصبرهم كان سبباً في دخول هذه الغرفة وهذه الجنة، صبرهم على طاعة الله عز وجل وطاعة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، وصبرهم عن المحرمات فلا يقعون فيما حرم الله، وصبرهم على القضاء والقدر، وهذه أنواع الصبر الثلاثة، فصبروا على الطاعة، ففعلوا ما أمر الله سبحانه وتعالى به، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وجاهدوا في سبيل الله سبحانه، وأدوا العبادات التي أمر الله عز وجل على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى، فصاموا وصلوا وزكوا وحجوا، وفعلوا كل خير طلب منهم، فصبروا على الطاعة، والطاعة تكليف، والتكليف يكون فيه مشقة وكلفة، فهؤلاء صبروا على هذا التكليف فأطاعوا، وصبروا عن المعاصي، فانتهوا عما نهاهم الله سبحانه وتعالى عنه من الشرك والسرقة والزنا والقتل والعقوق والمنكرات، وقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، وصبروا على ما ابتلاهم الله عز وجل به ليمحصهم، وليظهر إيمانهم، وليظهر تقواهم، ابتلاهم بالمصائب، وبنقص من الأموال والأنفس والثمرات، وإذا بهم يصبرون ويطيعون الله سبحانه وتعالى، فلا يضجرون، ولا يعترضون، ولا يتذمرون، ولكن يصبرون لأمر الله سبحانه وتعالى، ويقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون.

فهؤلاء بشرهم ربنا سبحانه وتعالى في الدنيا بأن لهم أجراً عند الله سبحانه، فيجزون الغرفة بما صبروا، فبصبرهم وصلوا إلى أعالي الجنات، {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157]، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.

قال: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا} [الفرقان:75]، (يُلقَّون) هذه قراءة الجمهور، وقراءة شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (ويَلقون فيها تحية وسلاماً) فهم يُلقون ويَلقون، والمعنى متقارب، فإذا دخلوا الجنة لقوا التحية من ملائكة الله عز وجل، بل ويحييهم ربهم بالسلام سبحانه وتعالى، {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، يلقون ذلك، وينادون بهذه التحية، فإذا دخلوا الجنة أفواجاً إذا بالملائكة تحييهم فتتلقاهم بالتحية والسلام.

وكلمة التحية معناها: الدعاء بالحياة، فتقول: حييت فلاناً، أحيي فلاناً، بمعنى: أدعو له بالحياة الطيبة الكريمة، فمن الذي يدعو لهم بهذه الحياة الطيبة، وبالحياة التي هي أمن وسلام دائم؟ إنهم ملائكة الله عز وجل بأمر الله سبحانه، بل ويحييهم ربنا سبحانه وتعالى، تحية من عنده مباركة طيبة، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73]، يلقون فيها تحية، أي: دعاء بالخلود في الجنة، بالحياة الكريمة الدائمة التي لا يزولون عنها أبداً، تسلم عليهم ملائكة الله، ويسلم عليهم ربهم سبحانه، ويسلم بعضهم على بعض، ويلهمهم ربهم في الجنة التسبيح كما يلهمون في الدنيا النفس.

والتحية: هي البقاء الدائم والملك العظيم، ويلقون فيها السلام أيضاً، أن سلمتم وأنكم تسلمون، وأنكم تعيشون في الجنة بسلام، فلا خصام في الجنة، ولا نكد فيها، ولا كدر فيها، ولا حقد ولا غل ولا قاذورات ولا نجاسات، ولا حيض ولا نفاس، ولا تفل ولا مخاط، ولا شيء في الجنة يكدر على أهل الجنة حياتهم ومعيشتهم، يأكلون ما يشاءون ولا يتخمون أبداً، بل إذا أكل الإنسان منهم، أخرج ما أكل رشحاً يرشحه، أي: عرقاً رائحته كرائحة المسك، فلا بول ولا غائط، وهذا من فضل الله ومن كرمه ورحمته سبحانه وتعالى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015