تفسير قوله تعالى: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر)

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل في سورة الجاثية: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:18 - 20].

لما أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى أنه آتى بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، وأنه رزقهم من الطيبات، وامتن عليهم بأن فضلهم على العالمين، وآتاهم بينات من الأمر، وعرفوا الحق من الله عز وجل، فاختلفوا فيما بينهم، وحسد بعضهم بعضاً على ما آتاهم الله عز وجل من نعم، قال: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية:17] أي: أنهم اختلفوا وهم على علم، وهم يعرفون الكتاب الذي أنزل عليهم، ويعرفون الحق الذي أراده الله سبحانه، فاختلافهم كان بعد أن عرفوا ذلك وعلموه من نبيهم عليه الصلاة والسلام، فأخبر سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية:17] أي: وإن تركهم في الدنيا فهو يملي لهم سبحانه، وكيده متين، ثم يوم القيامة يحاسبهم ويعذبهم على ما صنعوا، وقد استحقوا أن يلعنهم الأنبياء من بني إسرائيل على تكذيبهم وعلى إعراضهم وبغيهم وحسدهم بعضهم بعضاً، فالله سبحانه وتعالى حين يذكر هذا عن بني إسرائيل فكأنه يحذر أمة النبي صلى الله عليه وسلم من أن يقعوا فيما وقع فيه هؤلاء، فقد جاءنا من الله عز وجل نور وكتاب مبين، جاءتنا شريعة كاملة من رب العالمين، فيحذرنا الله عز وجل من أن نختلف كما اختلف بنو إسرائيل فيكون مصيرنا كمصيرهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا))، والشريعة: هي الملة، أي: جعلناك على ملة، جعلناك على طريقة مرضية، يرضى الله عز وجل عنها، فقد رضي لكم الإسلام العظيم ديناً، كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فالإسلام هو شريعة رب العالمين سبحانه، فهو منهج وملة وطريق ومذهب يذهبون إليه، وتشرعون فيه، فهو الشريعة العظمى، والشريعة بمعنى المقصد، تطلق على مورد الماء الذي يرده الجميع، والشارع: الطريق الأعظم الذي يسير فيه الجميع، فهذه شريعة رب العالمين، وهي طريق الله الأعظم، وملة رب العالمين، ودين الله الذي ارتضاه لعباده، وجعله لنبيه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ)) أي: شريعة من أمر الله، فنحن الذين أمرنا بها، ونحن الذين هديناكم إليها ووجهناكم لها، فالشريعة من أمر الله سبحانه ليست من أمر غيره.

((فَاتَّبِعْهَا)) يقال هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد اتبع هذه الشريعة، وقد بلغها صلى الله عليه وسلم، فكأنه من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة، فيقال للنبي صلى الله عليه وسلم: افعل كذا واحذر من كذا، وهو قد فعل كذا وقد حذر من كذا، ولكن المقصود أن يقال للأمة: إذا كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يخاطب بذلك فأنتم المقصودون والمعنيون بذلك، وأنتم أولى بهذا الخطاب: ((فَاتَّبِعْهَا))، فهو يتبع والأمة تتبع وتتأسى به، كما قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، صلوات الله وسلامه عليه.

قال: ((فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) أي: لا تتبع أهواء هؤلاء الكفار الذين علموا ظواهر من الأمر ولم يستيقنوا بذلك، علموا أن هناك جنة وأن هناك ناراً، وأن الله عز وجل سيحاسبهم يوم القيامة، علموا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولكن ليس علم يقين عندهم، فشكوا، وكان علمهم مجرد معرفة، فقد عرفوا النبي صلى الله عليه وسلم، لكنهم لم يتبعوه أنفة وحمية وعصبية، ورأوا أنهم أولى منه بالرسالة، فرفضوا دين رب العالمين، وشككوا حتى صار الأمر في قلوبهم الشك فيما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه، فعلمهم بما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم كلا علم.

كذلك عرفوا القرآن ولكنهم لم ينتفعوا به، إلا أنهم وجدوا له حلاوة، وعليه طلاوة، وأنه كلام جميل، أما أنهم يتبعونه فقد رفضوا ذلك، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم، -إذا أراد أن يتبعوه- أن يبعد عنه الضعفاء وعن الصغار، وأن يبعد عن هؤلاء العبيد؛ لأنهم هم السادة الكبار، ولا يجلسون مع أمثال هؤلاء، وهذا هوى في قلوبهم، فالدين يذلل العباد لرب العباد سبحانه تبارك وتعالى، يخرجهم من الظلمات إلى النور، يخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار، اسمعوا إلى كلام ربعي بن عامر حين كلم عظيم الفرس وقال له: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله الواحد القهار، فالله عز وجل ابتعث النبي صلى الله عليه وسلم فأمر المؤمنين، فخرجوا مبعوثين من قبل رب العالمين يدعون الخلق ويخرجونهم بإذنه سبحانه من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له.

قال تعالى: ((فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ))، فقد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: اذكر آلهتنا بخير ونحن نتبعك، يعني: يريدونه أن يقول: إن الأصنام هذه على خير، أي: أنها تنفع وتضر، فإذا قلت ذلك فإننا سوف نتبعك وهل ترى أن هؤلاء سيتبعون النبي صلى الله عليه وسلم حقاً أم أنهم يريدون شيئاً آخر؟ هم يريدون أن يوقعوا النبي صلى الله عليه وسلم في كلام يأخذونه عليه، فيقولون له: اجعل لنا يوماً ولهؤلاء يوماً، فنحن لا نجلس مع هؤلاء، فإذا فعل ذلك صلى الله عليه وسلم قالوا: انظروا إلى هذا الذي يدعو للمساواة، ويدعي أن الناس سواسية كأسنان المشط، وقد ميزنا على هؤلاء، إذاً دعوته هذه دعوة باطلة!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015