تفسير قوله تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى)

ثم جاءت ثمود من بعدهم، فقد كان عاد في جنوب الجزيرة وثمود في شمالها، قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] أي: بينا، والله يهدي على وجهين وطريقتين: إما بمعنى الدلالة والإرشاد، وهذا من رحمته سبحانه، فهو الرحمن الذي يهدي خلقه كلهم ويدلهم، كما قال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] أي: بينا للإنسان طريق السعادة وطريق الشقاوة، فلا عذر لأحد عند الله سبحانه وتعالى، فالذين آمنوا زادهم الله هدى من فضله سبحانه، بمعنى: دلهم ووفقهم سبحانه للسير لطريقه سبحانه وتعالى، وإذا أخذ بأيدي المؤمنين فهو مزيد فضل من الله عز وجل، ولا يلزم ربنا سبحانه أنه يأخذ بيد الجميع، بل يهدي من يشاء ويعصم ويعفو فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً سبحانه وتعالى، فإذا هدى قوماً فهذا بفضله سبحانه، وإذا أضل أقواماً فهذا بعدله سبحانه وتعالى.

قال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] أي: دللناهم على طريق الله، وتوحيده وسنته في خلقه.

قال: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17] أي: فضلوا أن يعيشوا في كفرهم بالله سبحانه وعماهم وبعدهم عن دين الله على أن يهتدوا! قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} [فصلت:17]، والصاعقة تكررت هنا، فحصلت الصاعقة للأوائل كما حصلت لهؤلاء، وهي العذاب المبيد المهلك، رجفة وصيحة تأتيهم من السماء، وإهلاك لهؤلاء بشر أنواع الإهلاك، وقد طلبوا آية من الله سبحانه، وطلبوا من رسولهم أن يخرج لهم من الجبل ناقة معها فصيلها، فلما جاءتهم هذه الآية التي رأوها وقيل لهم: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء:155]، فلما رأوا هذه الآية كادوا يسلمون مع نبيهم، فإذا بالكبراء من القوم يخافون أن يضيع منهم منصبهم، فما زالوا بالقوم حتى رجعوا عن أمر الإيمان وكذبوا رسولهم عليه الصلاة والسلام، انتظروا على الناقة فترة وخافوا من إيمان القوم فتعاقد منهم مجموعة على قتلها، قال تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل:48 - 49].

إذاً: فالبداية من هنا: فقد قال رجل منهم اسمه قدار: أقتلها لسبب من الأسباب، فإذا بهم يحفزونه ويهيجونه ويعدونه بالزواج إذا فعل ذلك، فذهب فعقر هذه الناقة، وأراد قتل فصيلها فإذا بنبيهم صالح يحذرهم عقاب الله سبحانه، فتعاقدوا بينهم أن يلحقوه بها، بل وتقاسموا بالله فيما بينهم، فاجتمع هؤلاء التسعة النفر وأقسموا فيما بينهم بالله: {لَنُبَيِّتَنَّهُ} [النمل:49]، والتبييت بمعنى: القتل في الليل، لنبيتنه هو وأهله قبل الصبح، وتوعدهم صالح بعذاب، فقال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود:65]، فأول يوم سيجعل الله عز وجل لكم آية في أنفسكم: وهي أن تصفر وجوهكم، ثم في اليوم الثاني: تحمر وجوهكم، ثم في اليوم الثالث: تسود وجوهكم ويأتيكم العذاب، فقالوا: سنقتلك إذا لم يحصل ذلك، فإذا بالعذاب يأتيهم تدريجياً، اصفرت الوجوه فعرفوا العذاب، ثم احمرت الوجوه فانتظروا الأمر، ثم اسودت الوجوه فإذا بهم ينتظرون عذاب الله سبحانه، وهذا من أقسى ما يكون على الإنسان أن ينتظر عذابه من حيث لا يدري من أين يأتيه، هل من السماء أم من الأرض؟ فجاءتهم صاعقة بعذاب الله سبحانه وتعالى، فسمعوا صيحة عظيمة ورجفت بهم الأرض فإذا بهم صرعى أهلكم ربهم سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} [فصلت:17]، أي: العذاب المهين الذي أهانهم الله به وأخزاهم، {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت:17]، وقال سبحانه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76] أي: بما كسبت أيديهم، وبأخذهم للسيئات وتركهم للحسنات، وتركهم لطاعة الله سبحانه، لكن المؤمنين ينجيهم الله سبحانه، كما قال: {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت:18]، فبفضل الإيمان والتقوى ينجي الله عز وجل عباده الصالحين، فهو الذي دلهم على طريق الخير وأرشدهم إليه وأخذ بأيديهم إليه ونجاهم من العذاب.

نسأل الله سبحانه أن ينجينا من عذاب الدنيا والآخرة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015