تفسير قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم)

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد: قال الله عز وجل في سورة العنكبوت: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ * اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت:58 - 62].

لما ذكر الله سبحانه وتعالى الموت ذكر أن المرجع إليه سبحانه وتعالى ليجازي الخلق على ما عملوا، فأما الكفار فيعذبهم الله عز وجل عذاباً يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم في نار جهنم، ويقال لهم: {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55]، وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فالله عز وجل يبوئهم من الجنة نزلاً، وينزلهم من الجنة منزلاً عظيماً عالياً، وهي غرف الجنات، كما قال عز وجل: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ} [العنكبوت:58]، أي: لندخلنهم ولننزلنهم ولننسكننهم ولنقيمنهم في هذه الجنة العالية {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:58].

وذكر الله عز وجل العمل فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العنكبوت:58]، والجزاء يوم القيامة أن يقال لهم: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:58]، يعني: أنعم بهذا لمن عمل.

فهم لم يكتفوا بأن يقولوا: آمنا وصدقنا بقلوبنا، ولم يكتفوا بأن نطقوا بألسنتهم بكلمة التوحيد، ولكن العمل الصالح وراء ذلك، فالله أمر المؤمنين بالعمل الصالح فقال: {وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، فلما عملوا الصالحات جوزوا بالجنات وقيل لهم: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:58].

وروى النسائي من حديث فضالة بن عبيد قال: قال صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم -والزعيم: الضامن- لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة)، يعني بالقصور التي في الجنات، وربض المكان: الفناء الذي حول المكان، ووسط المكان أعظم من ربضه، فالجنة فيها ربض، وكأنه المنزلة الأقل في الجنة، وفيها منزلة أخرى هي أوسط الجنة، ومنزلة أخرى هي أعلى الجنة.

فذكر الأولى والثانية فقال: (أنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة)، هذا للمؤمن الذي أسلم والذي هاجر في سبيل الله عز وجل، ثم قال: (وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى غرف الجنة)، هذا للمجاهد في سبيل الله عز وجل، لمن يجاهد بسنانه وبلسانه وبقلبه أعداء الله يجاهد المنافقين، ويجاهد الكفار، ويجاهد لنشر دين الله سبحانه وتعالى، ويدفع ما يلقيه أهل الباطل من شبهات، ويدفع ما يقوله أهل الكفر من اتهامات، فيجاهد في سبيل الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم زعيم ضامن له ببيت في ربض الجنة، وببيت آخر في وسط الجنة، وببيت ثالث في أعلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (من فعل ذلك فلم يدع للخير مطلباً ولا من الشر مهرباً يموت حيث شاء أن يموت)، والمعنى: طالما أنك أسلمت لله وآمنت بالله وجاهدت في سبيل الله سبحانه وعملت العمل الصالح فمت حيث شئت، فسواء مت وأنت تجاهد في سبيل الله عز وجل فصرت شهيداً، أو مت وأنت على فراشك في بيتك، فلك هذا الأجر لا ينقص أبداً، والضامن لك هذا الأجر هو رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.

يقول الله عز وجل: {نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [العنكبوت:58]، أي: أن جزاءهم الجنة العالية العظيمة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم وذكر أن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015