ويمكن أن يطلق على هذه المرحلة "مرحلة التحدي" لما حفلت به من حملات التغريب والغزو الثقافي واضح وخطة واسعة المدى قوامها الغزو التجارى والاقتصادى والثقافي والعسكرى والسياسى، وعمليات الغزو الثقافي عن طريق الصحافة والكتابة والسينما والتعليم، وحركات التبشير والاستشراق والدعوات المتعددة التي تهاجم التراث والقيم والدين ومحاولة التشكيك فيها، والثنائية في التعليم الدينى والمدنى وثنائية الثقافة بين الفرنسية والانجليزية والحملات على القيم، والاتهامات ودعوات التجزئة والتمزيق ومحاولات نقل حشد هائل من المذاهب والنزعات والدعوات الغربية المتصلة بالدين والمجتمع والفكر وحملات الشيوعية والصهيونية والإلحاد، والحملات على الدين واللغة.

وقد وقفت الأمة العربية من الحضارة الغربية موقفا رائعا، لم يكن موقف الجمود ولا موقف الانصهثر. لم يمانع من قبل الأضواء الحديثة على أساس ان تظل معالم شخصيتنا حية قائمة، على ان تزداد بهذه الأضواء الجديدة قوة وحياة واندفاعا في طريق الأمم الناهضة.

ولم يكن لدى البلاد العربية مانعا من تقبل الحضارة باعتبارها نتاج بشرى اشترك فيه الجنس الانسانى كله وقد قام العرب بدورهم فيها وحملوا أمانتها- وحدهم- فترة تزيد على أربعة قرون كاملة وحدهم فحموها وزادوا فيها وأضافوا اليها.

والإسلام دين متطور فسيح مطلق يتجاوب مع الأزمان المختلفة والبيئات المتعددة، ولا يحول دون اقتباس أسباب الحضارة، وقد تقبل مجتمعنا الحضارة من تبل واقتباس وترجم من ثقافات الشرق والغرب ومن حضارات الفرس والروم والهند والمسحيين واليونان ما زاد شخصيته قوة وحياة.

ولكن الغرب عندما اتصل بالوطن العربي لم يقدم لنا من الحضارة الا الجوانب المتصلة بمظاهر الحياة وهى في مجموعها جوانب الغرائز والترف وارضاء الأهواء.

وللحضارة الغربية جانبها: العلمى العقلى المتصل بالآلة والاختراع والتقدم العلمى والكشوف المختلفة. وجانبها المتصل بالترف والمتاع الحسى واطلاق الأهواء واللذات مما كانت المرأة والمراقص والحانات والكحول والمخدرات وسائلها وأدواتها.

وقد حرص الاستعمار ان ينقل هذا الجانب وحده إلى البلاد المحتلة، وان يحجب عنها الجانب الايجابى، ولم يقصد بتقديم هذا الجانب من الحضارة ألا العمل على تحطيم المجتمع العربي وبث روح الفساد فيه وتمزق كيانه واستلاب ثروات الأثرياء الذين اندفعوا وراء اللذات، وسقطوا في حماة المتاع الحسى فتركوا القرية وعكفوا على الأهواء في المدن وبذلك فقدوا ثرواتهم والتهمتها المؤسسات الاستعمارية الربوية والعقارية، اما فيما يتعلق بالثقافة فقد حجب الاستعمار عن الوطن العربي جانبها العلمى الرفيع المتصل بترقية الحياة والسمو بالفكر إلى عوالم الاحساس والتسامى، وأباح الجانب المتصل بالمذاهب الهدامة والآراء الإلحادية والشبهات وقضايا الفكر التي ما زالت معروضة للبحث والتي لم تصل بعد إلى درجة العقائد، واتصل هذه بالنظريات ذات المظهر العلمى التي خلقها الاستعمار ليحاول اقناع الشرقيين والشعوب الملونة والمحتلة بأنهم أقل من الشعوب البيضاء قدرة عقلية، وان الرجل الأبيض هو الانسان الذي خصته العناية الالهية بنحصير الشعوب المختلفة وحمل أمانة حمايتها وتنويرح ا، وهذا هو ما التام هذا الاضطراب العميق والصراع النييبين الفكر العربي والحضارة والثقافة الغربيتين.

وعندى أن أمر الحضارة والثقافة الغريبتين او انتقل الينا انتقالا طبيعيا دون ان تكون وراءه هذه القوى التي تقوم على الغزو الثقافي وتنظم الحملات في سبيل "سحق الشخصية العربية" لما حدث أى انحراف، وانما الذي أحدث الانحراف هو محاولة الغرب في غزو بلادنا بجانب من ثقافته ان يفرض الجانب المنحرف المضطرب المتشكك.

والواقع ان الآراء والمذاهب الغربية لم تكن قائمة في الغرب بهذه الكثرة او التعدد في وقت واحد وانما جرت محاولة حشد كل الآراء والأفكار والدعوات التي مرت بمختلف الثقافات والفلسفات في الفقرة الطويلة من عصر النهضة إلى الآن حتى تأخذ صورة الحملة الجائحة التي تثير اؤعصاب وتبعث الشك وتزلزل العقائد في حين ان هذه الدعوات والمذاهب قد ظهر بعضها أثر البعض الآخر وانها لم تكن في صيغة الحقائق المقررة وانما في صيغة الآراء المعروضة للمناقشة وكآراء قابلة للنقد وان أغلبها انطوى وظهرت أفكار أخرى قضت على الأولى.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015