الليبى البربرى-مع ما حدث له من بعض التطور-هو العنصر الغالب على كل العناصر الوافدة على دياره. ومن قديم كانت التجارة رائجة رواجا كبيرا فى برقة وطرابلس، مما جعل الإغريق يحتلّون الأولى ويؤسسون بها مدنا تجارية متعددة، كما جعل الفينيقيين والرومان يحتلون-بدورهم-طرابلس. وكان الساحل الشمالى يموج بمصايد الأسماك فيه، وكان ما وراءه من المدن والسهول والوديان يكتظ بأشجار الزيتون والنخيل والفواكه والزروع والحبوب، واكتظت الواحات بالنخيل وأنواع التمور والفواكه، وامتلأت الهضاب والصحارى بمراعى الأغنام والأنعام. ونلتقى بصناعات يدوية كثيرة وخاصة صناعة النسيج والزجاج وعصر الزيت ودبغ الجلود وقطع الرخام: طيبات كثيرة من الرزق. وكان البربر وثنيين ونزل بديارهم اليهود وكانت لهم بطرابلس حارة خاصة بهم، واستجاب بعض أهل المدن فى عهد الرومان وبيزنطة للمسيحية، وكان بينهم أرثوذكس يتبعون كنيسة القبط فى الإسكندرية وكاثوليك يتبعون كنيسة روما البابوية. وما إن نزل الإسلام ليبيا حتى أسرعت جماهيرها إلى اعتناقه، وآثرت دائما مذهب مالك السنى واعتنق المذهب الإباضى جبل نفوسة وبعض أهل طرابلس. ومعروف أن الدولة العثمانية كانت تعمل على إشاعة مذهب الإمام أبى حنيفة فى الولايات التابعة لها، غير أن مذهب مالك ظل فى ليبيا-مثل جميع بلاد المغرب-هو المذهب العام للجماهير الليبية. وقد نزع كثير من أهل ليبيا إلى الزهد، وشاعت بينهم فى الحقب المتأخرة الطرق الصوفية السنية.

وأخذت الحركة العلمية تنشط فى ليبيا منذ الفتح، إذ لم يكن الفاتحون غزاة يبتغون المغانم، إنما كانوا مجاهدين فى سبيل الله يبتغون نشر دينه فى أرجاء الأرض، ولذلك كانوا بمجرد الفراغ من الفتح يتحولون معلمين يهدون أهل الشعوب المفتوحة للإسلام وتعاليمه مع تحفيظهم لبعض آيات وسور من الذكر الحكيم، وسرعان ما كانوا ينشئون لهم الكتاتيب-كما حدث فى طرابلس-يعلمونهم فيها مبادئ القراءة والكتابة ويحفّظونهم القرآن ويرشدونهم إلى تعاليم الإسلام. وأخذت حلقات العلماء تكثر فى المساجد بالمدن والقرى، وبالتدريج أخذوا يعنون بتفقيه الناس فى الدين وتعريفهم بالعربية وقواعدها السديدة فى النطق والتعبير. ولم يلبث أن رحل إلى المشرق بعض الليبيين فى طلب العلم. واشتهر فى كل مدينة ليبية بعض العلماء، وظهر فى كل علم أئمة كبار، ونمت العلوم اللغوية والإسلامية. ودار الزمن دورات، وازدهرت تلك العلوم فى عهد الدولة الحفصية وساعد على ازدهارها نشوء المدارس والزوايا، وخمدت الحركة العلمية فى العهد العثمانى، أو بعبارة أدق أصابها شئ من الركود.

وإذا أخذنا نراجع العلوم والعلماء على مر الزمن لاحظنا أن ليبيا لم تعرف بنشاط فى علوم الأوائل ولكنها عرفت ذلك فى العلوم اللغوية والدينية، إذ لمع فيها-طوال القرون الإسلامية-علماء مختلفون مثل الأجدابي اللغوى فى القرن الخامس الهجرى ومؤمن بن فرج

طور بواسطة نورين ميديا © 2015