دخل عبد الله بن عمر بن عتبة على المهدي يعزيه بالمنصور، فقال: آجر الله أمير المؤمنين على أمير المؤمنين، وبارك له فيما خلفه فيه، فلا مصيبة أعظم من المصيبة بإمام، ولا عقبي أفضل من خلافة الله على أمة نبيه عليه السلام، فاقبل يا أمير المؤمنين من الله أفضل العطية، واحتسب عنده أفضل الرزية.

قال عبد الصمد بن المعذل، أو صالح بن عبد القدوس:

إن يكن ما به أصبت جليلا ... فذهاب العزاء فيه أجل

وقال محمود الوراق:

تعز بحسن الصبر عن كل هالك ... ففي الصبر مسلاة الهموم اللوازم

إذا أنت لم تسل اصطباراً وحسبة ... سلوت على الأيام مثل البهائم

وليس يذود النفس عن شهواتها ... من الناس إلا كل ماضي العزائم

وقال أيضاً:

يمثل ذو العقل في نفسه ... مصائبه قبل أن تنزلا

فإن نزلت لم تكن بغتة ... لما كان في نفسه مثلا

رأى الهم يفضي إلى آخرٍ ... فصير آخره أولا

وذو الجهل يأمن أيامه ... وينسى مصارع من قد خلا

فإن بدهته صروف الزمان ... ببعض مصائبه أعولا

ولو قدم الحزم في رأيه ... لعلمه الصبر عند البلا

وقال أبو تمام الطائي:

أتصبر في البلوى عزاءً وحسبةً ... فتؤجر أم تسلو سلو البهائم

كتب رجل إلى صديق: أما بعد، فإن الصبر سجية المؤمن، وعزيمة المتوكل، وسبب درك النجح في الحوائج، وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب: أصيب الأحنف بمصيبةٍ فلم يجزع لها، فقيل له: إنك لصبور! فقال: الجزع شر الحالين، يباعد المطلوب، ويورث الحسرة، ويوقع على صاحبه العار.

وقيل لامرأة أصيبت بولدها: كيف أنت والجزع؟ فقالت: لو رأيت فيه دركاً ما اخترت عليه، ولو دام لي لدمت عليه.

جزع أعرابي على موت ابنه؟ فليم على ذلك، فقال: أعلى قدر الله أتجلد؟ والله للجزع من قدر الله أحب إلي، لأن الجزع استكانة، والصبر قساوة.

سئل محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن الرجل المسلم تموت له أم نصرانية كيف يعزى فيها؟ فقال: تقول: الحمد الله على ما قضى، قد كنا نحب أن تموت على الإسلام ويسرك الله بذلك.

وسئل أيضاً عن الجار النصراني يموت وله ولي من النصارى، كيف نعزيه؟ قال: تقول: إن الله كتب الموت على خلقه، والموت حتم على الخلق كلهم.

عزى أعرابي عمر بن عبد العزيز في ابنه، فقال:

تعز أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغذى الصغير ويولد

لما قطعت رجل عروة بن الزبير تمثل بأبيات معن بن أوس:

لعمرك ما أهديت كفى لريبة ... ولا حملتني فوق فاحشةٍ رجلي

ولا قادني سمعي ولا بصري لها ... ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي

وأعلم أني لم تصبني مصيبة ... من الدهر إلا قد أصابت فتىً قبلي

قدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك حين دويت رجله، فقيل له: اقطعها. فقال: إني لأكره أن أقطع مني طائفة، فارتفعت إلى الركبة، فقيل: إن وقعت في ركبتك قتلنك فقطعها، فلم يقبض وجهه ولا تأوه. ويقال: إنه لم يترك حزبه في تلك الليلة. وقيل له قبل أن يقطعها: نسقيك دواءً لا تجد لها ألما؟ قال: ما يسرني أن هذا الحائط وقاني أذاها. فلما كان بعد أيام قام ابنه محمد بن عروة ليلا فسقط من أحد الأسطح في اصطبل دواب الوليد، فضربته بقوائمها حتى قتلته. فأتى رجل عروة يعزيه، فقال له عروة: إن كنت جئت تعزي برجلي فقد احتسبتها. فقال: بل أعزيك في محمد ابنك. قال: وماله؟ فخبره بشأنه، فقال:

وكنت إذا الأيام أحدثن نكبة ... أقول شوى، ما لم يصبن صميمي

اللهم أخذت عضواً وتركت أعضاء، وأخذت ابناً وتركت أبناء، ولئن كنت أخذت لقد أبقيت، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت.

ولما قدم المدينة نزل قصره بالعقيق، فأتاه محمد بن المنكدر، فقال له: كيف كنت؟ قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. وجاءه عيسى بن طلحة، فقال لبعض بنيه: اكشف لعمك عن رجلي ينظر إليها، ففعل. فقال عيسى بن طلحة: أما والله يا أبا عبد الله ما أعددناك للصراع ولا للسباق، ولقد أبقى الله لنا ما كنا نحتاج إليه منك، رأيك وعلمك، فقال عروة: ما عزاني أحد عن رجلي مثلك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015