وَقِيلَ الْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي النَّفَقَةِ.

وَإِنْ قُلْت: وَالتَّقْتِيرُ التَّضْيِيقُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِسْرَافِ {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وَسَطًا، وَعَدْلًا (وَأَعْلَى السَّخَاءِ الْإِيثَارُ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَالِ مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ) ، وَإِيصَالُ ذَلِكَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] أَيْ يُقَدِّمُ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ قِيلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعَاشِ حَتَّى إنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ امْرَأَتَانِ نَزَلَ عَنْ وَاحِدَةٍ وَزَوَّجَهَا مِنْ أَحَدِهِمْ {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فَقْرٌ وَحَاجَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِيثَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِيمَا هُوَ غَيْرُ الْقُرُبَاتِ فَإِنَّ الْإِيثَارَ فِيهَا مَكْرُوهٌ كَمَا هُوَ فِي غَيْرِهَا مَحْبُوبٌ فَلَا إيثَارَ بِمَاءِ الطَّهَارَةِ وَبِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَبِالصَّفِّ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلْإِجْلَالِ اللَّازِمِ لِلْعَابِدِ.

فَلَوْ وَهَبَ مَاءَ الْوُضُوءِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ آثَرَ الْمُضْطَرُّ إلَى طَعَامِهِ غَيْرَهُ يَجُوزُ، وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ مُهْجَتِهِ، وَإِيثَارُ الطَّالِبِ غَيْرَهُ بِنَوْبَتِهِ لِلْقُرْآنِ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ إيثَارٌ بِالْقُرَبِ، وَفِي هِبَةِ مُنْيَةِ الْمُفْتِي فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ مَعَهُ دَرَاهِمُ فَأَرَادَ أَنْ يُؤْثِرَ الْفُقَرَاءَ عَلَى نَفْسِهِ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَصْبِرُ عَلَى الشِّدَّةِ فَالْإِيثَارُ أَفْضَلُ، وَإِلَّا فَالْإِنْفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْضَلُ (حب) ابْنُ حِبَّانَ (شَيْخٌ) أَبُو الشَّيْخِ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيُّمَا امْرِئٍ اشْتَهَى شَهْوَةً» أَيْ مُشْتَهًى مِنْ مُشْتَهَيَاتِ النَّفْسِ «فَرَدَّ شَهْوَتَهُ» ، وَلَمْ يَقْضِهَا «وَآثَرَ» قَدَّمَ غَيْرَهُ «عَلَى نَفْسِهِ» مَعَ احْتِيَاجِهِ «غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُهُ» أَيْ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ، وَلَمْ يُوجَدْ دَلِيلُ الْجِنْسِ فَلِلِاسْتِغْرَاقِ لَكِنَّ الْمُرَادَ فِي مِثْلِهِ هُوَ الصَّغَائِرُ فَإِنَّ الْكَبَائِرَ لَا تُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ وَمِنْ جُمْلَةِ التَّوْبَةِ الْقَضَاءُ وَاسْتِرْضَاءُ الْخُصُومِ وَالْكَفَّارَاتُ فَمَا قِيلَ فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ صَغِيرَةٌ فَيَغْفِرْ الْكَبَائِرَ فَيَرُدُّهُ قَوْله تَعَالَى - {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31]- الْآيَةَ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) ، وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ «مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ» لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى شِبَعِهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَلَا مُنَافَاةَ لِعَدَمِ شِبَعِهِ أَصْلًا قَالَ فِي الشِّرْعَةِ: أَوَّلُ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ الشِّبَعُ، وَفِي شَرْحِهِ الْمُسَمَّى بِجَامِعِ الشُّرُوحِ وَكَانَ لَا يَشْبَعُ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ بَلْ، وَلَا لَيْلَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ بَلْ أَصْلًا لِمَا قَالَتْ عَائِشَةُ «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ» ، وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ أَنَّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جَاءَتْ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «مَا هَذِهِ الْكِسْرَةُ يَا فَاطِمَةُ قَالَتْ قُرْصٌ خَبَزْته، وَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتُك بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ فَقَالَ أَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيك مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» (وَلَوْ شِئْنَا لَشَبِعْنَا) يَعْنِي لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عَجْزِنَا، وَعَدَمِ اقْتِدَارِنَا عَلَى قُوتِنَا بَلْ مِنْ إيثَارِنَا الْغَيْرَ عَلَى أَنْفُسِنَا. الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ مَقُولِ عَائِشَةَ يَعْنِي لَمْ يَكُنْ عَدَمُ شِبَعِ رَسُولِ اللَّهِ، وَعَدَمُ شِبَعِنَا لِعَدَمِ وِجْدَانِنَا؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عُرِضَتْ عَلَيْهِ بَطْحَاءُ مَكَّةَ مِنْ ذَهَبٍ فَأَبَى وَخُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا مِنْ كَمَالِ زُهْدِهِ (وَلَكِنَّهُ كَانَ يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ) غَيْرَهُ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ؛ وَلِأَنَّ الشِّبَعَ مَجْلَبَةٌ لِلْآثَامِ مَنْقَصَةٌ لِلْإِيمَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ فَإِنَّ مَنْ امْتَلَأَ بَطْنُهُ انْتَكَسَتْ بَصِيرَتُهُ وَتَشَوَّشَتْ فِكْرَتُهُ» ، وَلَا يَسْتَوْلِي عَلَى مَعَادِنِ إدْرَاكِهِ مِنْ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنْ مَعِدَتِهِ إلَى دِمَاغِهِ فَلَا يَتَأَتَّى لَهُ نَظَرٌ صَحِيحٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَشْبَعُوا فَتُطْفِئُوا أَنْوَارَ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِكُمْ» كَذَا فِي أَكْمَلِ الْمَشَارِقِ عَنْ الْقَاضِي (قُطْن) الدَّارَقُطْنِيُّ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَعَامُ الْجَوَّادِ دَوَاءٌ»

طور بواسطة نورين ميديا © 2015