ثم اختلف الأولون فقال الأكثرون منهم: نزلوا وقاتلوا، وقال الباقون: نزلوا ولم يقاتلوا، وجعلوا قوله تعالى "فاضربوا فؤق الأعناق" أمرا للمسلمين لا الملائكة، وتمسكوا به لأنه لو حارب واحد من الملائكة جميع البشر لاستأصلهم ببعض قوته. فإن جبرائيل عليه السلام اقتلع مدائن قوم لوط ورفعها على خافقة من جناحه حتى بلغ بها السماء، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها، فما عسى تبلغ قوة ألف رجل من قريش ليحتاج في مقاومتها إلى ألف ملك من ملائكة السماء، مضافين إلى ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً من بني آدم؟ وإنما كان نزولهم ليكثروا سواد المسلمين في أعين المشركين، إذ كانوا يرونهم في بدء الحال قليلين، كما قال تعالى "ويقللكم في أعينهم" ليطمع المشركون فيهم، ويجترؤا على حربهم، فلما نشبت الحرب فيهم كثرهم الله تعالى بالملائكة في أعينهم ليفروا، ولأنهم كانوا يتصورون لهم في صور من يعرفونهم من البشر، ويقولون لهم ما جرت العادة به أن يقال في تثبيت القلوب في الحرب وذلك قوله تعالى "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا"، وحينئذ بعدم القول بعدم النزول إلى عالم الحس أو القول به مع عدم القتال فالشبهة ساقطة، وعلى القول به أيضاً إنما تفوته فضيلة الظفر لو لم يغن في مجاهدة الفرسان ومجالدة الأقران عن سائر من حضر من الملائكة والبشر. وهب أنها فاتته، أليس التأييد في نفسه فضيلة لا تقاس بها فضيلة؟ ورب فضيلة تركت لما هو أفضل منها. ألم يكن الله تعالى قادرا على قبض أرواح العباد لا بيد عزرائيل؟ وعلى إهلاك من أهلك من الأمم لا على يد جبرائيل؟ وعلى إحصاء أعمال العباد من دون كتابة الصحف؟ بلى كان قادرا على ذلك كله، ولكن بحصول المطلوب بنفوذ الأمر من القادر المطاع من إظهار الجلال والجبروت ما لا يحاط به نطاق العقل بل تسخير المدبرات من آثار التمكن والاقتدار ما ليس في وسع دائرة المباشرة. ومع الإغماض عن ذلك كله من أين يتطرق إليه النقص لو شاركته الملائكة في قهر الأعداء؟ أو استقلت به دونه حتى يكون وصفه هجوا له؟ وإنما يتطرق النقص إلى من تقاعد عن الحرب حيث تمس الحاجة إلى القيام بها جبنا، أو تقاعس عنها حيث تدعو الضرورة إلى الإقدام عليها فرقا. ولعمري لقد عشي بصر أبي مجال حتى رأى الحسنة سيئة والمنقبة مثلبة قوله تعالى "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون".

هذا ما جرى به القلم على يد أقل العباد محمد بن علي الشامي العاملي عصمه الله من الخلل والخطل في القول والعمل في سنة ثمانين وألف. انتهى كلامه رفع مقامه.

وأبو حية النميري الذي ذكره أبو مجالد كان من أجبن خلق الله. حكى جار له قال: كان لأبي حية سيف ليس بينه وبين العصى فرق، وكان يسميه لعاب المنية. فأشرفت ليلة عليه فرأيته قد أضناه وهو واقف على باب داره- وقد سمع في بيته حسا- وهو يقول: أيها المغتري بنا والمجتري علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به، إنني والله أن أدع لك بني نمير، جاءتك بخيلها ورجلها، فاخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك. ثم فتح الباب على حذر ووجل شديد، فإذا كلب قد خرج فقال: الحمد الله الذي أرانا كلبا وكفانا حربا.

رجع إلى الإبهام- ومما قيل أن أبا الطيب قصد فيه الإبهام قوله في مدح كافور:

ويغنيك عما ينسب الناس إنه ... إليك تتناهى المكرمات وتنسب.

قال الخطيب لهذا البيت باطن وهو سخرية، يريد أنه لا نسب لك لأنك عبد.

وقوله:

وما طربي لما رأيتك بدعة ... لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب.

قال الواحدي وغيره: هذا البيت يشبه الاستهزاء به، لأنه يقول: طربت على رؤيتك كما يطرب الإنسان على رؤية القرود، وما يستملحه ويضحك منه. قال ابن جني: لما قرأت على أبي الطيب هذا لبيت قلت له: أجعلت الرجل أبازنة؟ فضحك لذلك.

وقوله فيه:

يدل بمعنى واحد كل فاخر ... وقد جمع الرحمن فيك المعانيا.

قال أبو الفتح: لما قرأت هذا البيت ضحكت وضحك أبو الطيب وعرف مطلوبي.

وقوله منها:

وغير كثير أن يزورك راجل ... فيرجع ملكا للعراقيين والياً

طور بواسطة نورين ميديا © 2015