معاهداً تحدث للصبر فناً ... إن ناحت الورق بها على فنن

تذكارها أورث في الحلق شجى ... وفي الحشا قرحاً وفي القلب شجن

لله أيام لنا على منى ... فكم لها عندي أياد ومنن

كم كان فيها من فتاة وفتى ... كل لقلب المستهام قد فتن

وتتمتها في ديوانه: وهذا النوع قليل جداً، وأصعب مسالكه ما كان بالضاد والظاء، لأجل إبدال الحرف الذي في المناسبة اللفظية.

وأما الجناس المقلوب، ويسمى جناس العكس أيضاً، فهو ما تساوت حروف ركنيه عدداً، وتخالفت ترتيباً، كقوله تعالى حكاية عن هارون: (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) وقول النبي) صلى الله عليه وآله وسلم (: اللهم استر عوراتنا وأمن روعاتنا.

ومن لطيف هذا النوع ما حكاه الثعالبي في اليتيمة عن أبي الحسين بن فارس قال: كنت عند الأستاذ، يعني أبا الفتح بن محمد بن العميد، في ويوم شديد الحر، فرمت الشمس بجمرات الهاجرة، فقال لي: ما قول الشيخ في قلبه؟ فلم أحر جواباً، لأني لم أفطن لما أراد. ولما كان بعد هنيئة أقبل رسول الأستاذ الرئيس - يعني ابن العميد - يستدعيني إلى مجلسه. قمت إليه، فلما مثلت بين يديه تبسم ضاحكاً إلي وقال: ما قول الشيخ في قلبه؟ فبهت وسكت، وما زلت أفكر حتى انتهيت إلى أنه أراد الخيش. وكان من يشرف على أبي الفتح من جهة أبيه أتاه بتلك اللفظة في تلك الساعة، فدعاني ولفرط سروره بها أراد مجاراتي فيها. انتهى.

وأراد بالخيش، مروحة الخيش وهي شبيهة بشراع السفينة، تعلق بالسقف، ويتروح بها في الصيف، وترش بالماء أو الماء ورد لتكون أبرد. وتعلق بحبل يراد به حركتها، فإذا أراد الرجل النوم جذبها بحبلها، فتذهب بطول البيت وتجيء، فيهب على الإنسان منها نسيم بارد طيب الرائحة، فيذهب عنه أذى الحر ويستطيب النوم، وهي فوقه ذاهبة جائية، وتستعمل ببلاد العراق.

ويقال أن أول من أحدثها هارون الرشيد، وذلك أنه دخل يوماً على أخته علية بنت المهدي. في يوم قيظ. فألفاه قد صبغت ثيابها بزعفران وصندل ونشرتها على الحبال لتجف، فجلس الرشيد قريباً من الثياب المنشورة فصارت الريح تمر على الثياب فتحمل منها نشراً طيباً، فوجد لذلك راحة من الحر واستطابه، فأمر أن يصنع له مثل ذلك.

ومن شواهد هذا النوع من النظم قول العباس بن الأحنف:

حسامك فيه للأحباب فتح ... ورمحك منه للأعداء حتف

ومن غاباته قول عبد الله بن رواحة يمدح النبي) صلى الله عليه وآله وسلم (:

تحمل الناقة الادماء معتجراً ... بالبرد كالبدر جلى نوره الظلما

ومنه قول أبي تمام:

بيض الصفائح لأسود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والربيع

وقول ابن حيوس:

تلقى بها الرواد روضاً زاهراً ... وتصادف الوارد حوضاً مفعما

وقول القاضي أبي بكر عبد الله بن أحمد البستي:

حكاني بهار الروض لما ألفته ... وكل مشوق للبهار مصاحب

فقلت له ما بال لونك شاحباً ... فقال لأني حين أقلب راهب

وزاد على هذا المعنى ابن رشيق فقال:

يا حسن ما سمي البهار به ... لو تركته قيافة القائف

قلبته راهباً فأشعرني ... خوفاً وتأويل راهب خائف

وقول أبي عبد الله الغواص:

من عذيري من عذول في قمر ... قامر القلب هواه فقمر

قمر لم يبق مني حبه ... وهواه غير مقلبو قمر

ومثله قول قمر الدولة:

اجملي يا جمل إني ... رجل ما فيه قلبه

أو يكن ذاك فإني ... قمر ما فيه قلبه

وقول الآخر:

فقالت ترى ما بالذي أنت قانع ... به من هوانا معكوس قانع

وقول ابن العفيف مع زيادة التورية:

اسكرني باللحظ والمقلة ال ... كحلاء والوجنة والكاس

ساق يريني قلبه قسوة ... وكل ساق قلبه قاس

وأخذ بعضهم هذا المعنى وزاده قلباً وطباقاً فقال:

قلت مستعطفاً لساق سقاني ... من طلا نيل مصر أطيب كاس

أنت أشهى إلي منه ولكن ... قلبه لين وقلبك قاس

ومثله قول الصلاح الصفدي:

قلب الدن من أحب فأضحت ... نفح الند من حمياه تهدى

قال لي أعجب فقلت غير عجيب ... كل دن قلبته صار ندا

وقوله أيضاً:

قلت وقد سرت في الظلام وقد ... أهمني منه فقد أيناسي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015