دعوى الإخاء على الرخاء كثيرة ... بل في الشدائد تعرف الإخوان

(وقال) آخر:

أخلاء الرخاء هم كثير ... ولكن في البلاء هم قليل

فلا تغررك خلة من تواخي ... فمالك عند نائبة خليل

(وقال) أبو العلاء المعري:

جربت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجارب في ود امرئ غرضا

(وقال) أبو فراس:

بمن يثق الإنسان فيما ينوبه ... ومن أين للحر الكريم صحاب

وقد صار هذا الناس إلا أقلهم ذئابا على أجسادهن ثياب

وقد أنصف من قال:

خليلي جربت الزمان وأهله ... فما نالني منهم سوى الهم والعنا

وعاشرت أبناء الزمان فلم أجد ... خليلا يوافي بالعهود ولا أنا

ولنكتف في هذا المعنى بهذا المقدار. وقد عقدت لكل من ذم الزمان وذم أبناء فصلا في (نفثة المصدور) وذكرت فيهما من النثر والنظم ما يشفي الصدور، فمن أراد بذلك فعليه بها.

تنبيه- قد بينا لك أن تعريف صاحب التبيان للكلام الجامع أعم من تعريف سائر البديعيين له، وعلى تعريفه جرى كثير من هذه الأمثلة التي ذكرها وذكرناها، وفيها ما هو جار على طريقتهم أيضاً، وإني لأستحسن تعميمه هذا تبعا للعلامة الكرماني شارح التبيان.

وأما أصحاب البديعيات فلم يبنوا أبياتهم إلا على ذلك فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي قوله:

من كان يعلم أن الشهد مطلبه ... فلا يخاف للدغ النحل من ألم

هذا المعنى مطروق جدا لكنه أحسن الأتباع، وجاء فيه من الكلام الجامع والرقة والانسجام ما شنف الأسماع وأبهج الطباع.

وبيت بديعية العز الموصلي قوله:

كلامه جامع وصف الكمال كما ... يهيج الشوق أنواعا من الرتم

قال ابن حجة: قد تقرر أن الكلام الجامع، أن تأتي الناظم ببيت حلته حكمة أو موعظة أو غير ذلك من الحقائق التي تجري مجرى الأمثال، وليس بين الشطر الأول من البيت وبين الشطر الثاني مناسبة، ولم أر لجريان المثل دخولا في باب هذا البيت. انتهى، وهو انتقاد في محله.

ولم ينظم ابن جابر هذا النوع في بديعيته.

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

جمع الكلام إذا لم تغن حكمته ... وجوده عند أهل الذوق كالعدم

قال ناظمه: حكمة هذا البيت، ما أجريت مثلها على هذا النمط، إلا ليعلم المتيقظ أن فيه إشارة لطيفة إلى بيت عز الدين، فإني قررت أن ليس في كلامه الجمع ما يشعر بحكمة تجري مجرى الأمثال، فوجوده كالعدم. انتهى.

وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:

من حام حول الحمى يا ذاك يوشك أن ... يرعى به أن ذا من جامع الكلم

هذا اقتباس من الحديث المشهور، وهو: من رتع حول الحمى يوشك أن يخالطه. ولا يخفى تداعي بناء هذا البيت.

وبيت بديعيتي قولي:

من رام رشد أخي غي هدى واتى ... كلامه جامعا للصدق لا التهم

إني خاطبت العاذل ببيت التفويف وقلت له:

أحسن أسيء ظن حقق ادن أقص أطل ... حك وش فوف أبن اخف ارتحل أقم

والمعنى: أن كل ما تفعله من هذه الأفعال غير مقبول، ولا ملتفت إليه.

حسن إيراد هذا البيت وهو بيت الكلام الجامع بعده، وقام مقام التعليل لعدم الالتفات إليه، وصح إجراؤه مجرى المثل، لأن معناه، أن من يروم إرشاد الغاوي ينبغي أن يهديه، وان يكون كلامه جامعا للصدق لا للتهم فكلام العاذل لما كان متهما فيه لم يلتفت إليه. وهذا البيت يصح أن يتمثل به لكل من أظهر النصيحة والإرشاد وهو منطو على خلاف ذلك.

وبيت بديعية شرف الدين المقري قوله:

لا يدرك الرتبة العلياء ذو دعة ... لا بد من تعب فيها ومن سأم.

المراجعة

قالوا تراجعهم من بعد قلت نعم ... قالوا أتصدق قلت الصدق من شيمي

المراجعة- وسماها جماعة منهم الإمام فخر الدين الرازي السؤال والجواب- عبارة عن أن تحكي المتكلم ما جرى بينه وبين غيره من سؤال وجواب، بعبارة رشيقة وسبك لطيف، يستحلي ذوقه السمع، أما في بيت واحد أو في أبيات.

قال الشيخ صفي الدين الحلي في شرح بديعته: وذكر ابن أبي الإصبع: أن هذا النوع من مخترعاته، وقد وجدناه في كتب غيره بالاسم الثاني. انتهى.

ومن لطيف شواهد هذا النوع قول عمر بن أبي ربيعة:

بينما ينعتنني أبصرنني مثل قيد الرمح يعدو بي الأغر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015