وهذا البيت لم يعرف أحد من أهل البديع الذين استشهدوا به قائله، فعزاه بعضهم إلى بعض الشعراء وعزاه الخطيب في الإيضاح، والتفتازاني في المطول إلى بعض المغاربة، وقال: إنه قاله عند وفاة بعض أصحابه، وليس كذلك. وإنما قال صاحب قلائد العقيان في ترجمة الرئيس أبي عبد الرحمن ابن طاهر: أنه شهد وفاته، وحين قضى دخل عليه الوزير أبو العلاء بن أزرق وهو يبكي ملء عينيه، ويقلب على ما فاته كفيه، وينادي بأعلى صوته أسفا على فوته:

كان الذي خفت أن يكونا ... إنا إلى الله راجعونا.

انتهى. وهذا لا يدل على أن الوزير المذكور قائله، بل تمثل به، فاعلم. ومما وقع التغير فيه بالزيادة والنقصان وإبدال الظاهر من المضمر والمضمر من الظاهر.

قول عمر الخيام:

سبقت العالمين إلى المعالي ... بصائب فكرة وعلو همة.

فلاح بحكمتي نور الهدى في ... ليال للضلالة مد لهمة.

يريد الجاهلون ليطفؤه ... ويأبى الله إلا أن يتمه.

والآية "يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله غلا أن يتم نوره".

الفائدة الرابعة- المشهور بتخصيص الاقتباس بكونه من القرآن. ومنهم من عد المضمن في الكلام من الحديث اقتباسا أيضاً. وزاد الطيبي: من مسائل الفقه. قال بعضهم: إذا قلنا بذلك فلا معنى للاقتصار على مسائل الفقه، بل بكون من غيره من العلوم. إذا عرفت ذلك فالخلاف المذكور في جوائز الاقتباس من القرآن وعدمه لا يجري في الحديث، خصوصا وهو تجوز روايته بالمعنى وغير ذلك مما لا يجوز في القرآن، كذا قال بعضهم. وقد رأيت ما قاله الشيخ بهاء الدين السبكي في العرس: من أن الورع أن ينزه عن مثله كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذا محل إثبات شيء من أمثلة الاقتباس بأنواعه نثرا ونظما.

فمن الاقتباس من القرآن في النثر، قول ابن نباتة الخطيب، من خطبة له: فيا أيتها الغفلة المطرقون؛ أما أنتم بهذا الحديث مصدقون؟ مالكم لا تشفقون؟ "فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون" وقوله من أخرى في ذكر يوم الحساب: هنالك يرفع الحجاب، ويوضع الكتاب، وتقطع الأسباب؛ وتذهب الأحساب، ويمنع الأعتاب؛ ويجمع من حق عليه العقاب، وجب له الثواب، فيضرب "بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب" وقول الحريري في مقاماته: فطوبى لمن سمع ووعى، وحقق ما ادعى "ونهى النفس عن الهوى" وعلم أن الفائز من ارعوى "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى".

وممن تقدم في نحو هذا الكلام، فكان إمام هذا المقام: عبد المؤمن الأصبهاني، في رسالة أطباق الذهب؛ وهي مائة مقالة عارض بها أطواق الذهب للزمخشري. وقال في ديباجتها: وهي مائة مقالة صيغت دمالج للعضد ومخانق للجيد، وخلخلت كل واحدة بكلمة من كتاب الله المجيد، وجعلتها كوكبة ثابتة لمغربها، وكلمة باقية في عقبها. فهي لا قدامها عقب، ولختامها مسك عبق؛ ولا أبتغي إلا وجه الله فيما فصلت وقطعت، وما أريد "إلا الإصلاح ما استطعت".

فمما استحسنه منها- وما محاسن شيء كله حسن- قوله وهي المقالة الخامسة:

خليلي هبا طالما قد رقدتما ... إلا تنشدان العهد ما قد فقدتما.

أين إخوان عاشرناهم وخلان؟ أين زيد وعمر وفلان وفلان؟ وأين رشفاء الكؤوس، وقدما بقي نسيم رياهم في النفوس؟ أما يزعنا موت الآباء والأمهات عن أباطيل الترهات؟ ألا إن المرء غافل مطرق، والموت واعظ مفلق، ينادي أقواما تظنهم قياما وهم قعود "وتحسبهم أيقاظا وهم رقود " تكرهون جرع الحمام فإنه ساقيكم "قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم".

وقوله، وهي المقالة السادسة والثمانون: ذكر الله أشرف الأذكار، فاذكروه بالعشي والإبكار، ذكره مقدحة الأرواح الصدية، كالصبا من وجه الأقاحي الندية، فاذكر الله ذكرا كثيرا، وكبره تكبيرا. فإذا أخلصت الذكر فاترك الصوت والحرف؛ وإذا شربت وسكرت فاكسر الطرف. السجود ما جل عن نقرات الجباه؛ والذكر ما خفي عن حركات الشفاه؛ فجهز لطيمة الأثنية إلى حظائر قدسة؛ واذكر ربك في نفسك يذكرك في نفسه، وقل لمن يذكر الله في لسانه تورعا "اذكر ربك في نفسك تضرعا".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015