أتت تشتكي عند مزاولة القرى ... وقد رأت الضيفان ينحون منزلي.

فقلت كأني ما سمعت كلامها ... هم الضيف جدي في قراهم وعجلي.

وسماه الشيخ عبد القاهر مغالطة.

وأما الثاني فكقوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) لما قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط، ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يستوي ويمتلي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا؟ فأجيبوا بما ترى تنبيها على أن الذي ينفعكم وه أهم بحالكم أن تعلموا منها أوقات الطاعات. وكقوله تعالى: (يسألونك ماذا تنفقون قل أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل) سألوا عن بيان ما ينفقون، فأجيبوا ببيان المصارف، تنبيها على أن المهم السؤال عنها، لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها، وكل ما فيه خير فهو صالح للإنفاق، فذكر هذا على سبيل التضمن دون القصد. ومثال ذلك أيضاً قول الطبيب الرفيق لمن غلب عليه السوداء إذا طلب الجبن: عليك بمائه، وعليه سؤال الأهلة، ولمن قهرنه الصفراء إذا اشتهى العسل: كله مع الخل، وإليه ينظر سؤال النفقة. وإذا أنت تأملت مواقع هذا النوع أعني الأسلوب الحكيم ظهر لك كمال الفرق بينه وبين القول بالموجب أتم ظهور، وجزمت بخطأ من جعلهما واحدا كابن حجة، فاعلم ذلك والله أعلم.

وبيت بديعية الصفي في نوع القول بالموجب قوله:

قالوا سلوت لبعد الإلف قلت لهم ... سلوت عن صحتي والبرء من سقمي.

قال في شرحه: الشاهد فيه عكس معنى المتكلم من فحوى لفظة سلوت.

ووجدت له أبياتا في ديوانه من هذا النوع وهي:

قالت كحلت الجفون بالوسن ... قلت ارتقابا لطيفك الحسن.

قالت تسليت بعد فرقتنا ... فقلت عن مسكني وعن سكني.

قالت تشاغلت عن محبتنا ... قلت بفرط البكاء والحزن.

قالت تخليت قلت عن جلدي ... قالت تغيرت قلت في بدني.

قالت تخصصت دون صحبتنا ... فقلت بالغبن منك والغبن.

وبيت بديعية ابن جابر أورده بحرف الاستدراك فقال:

كانوا غيوثا لكن للعفات كما ... كانوا ليوثا ولكن في عداتهم.

وبيت عز الدين الموصلي قوله:

قالوا مدام الهوى قولا بموجبه ... تسل قلت شبابي من يد الهرم.

أراد المتكلم بقوله: تسل، إنها تحدث داء السل، فعاكسه المخاطب بسل الشباب من يد الهرم. وهي أحسن من (سلوت) في بيت الحلي غير أن قوله (مدام الهوى قولا بموجبه) فيه من العقادة ملا لا يخفى.

وبيت بديعية ابن حجة قوله:

قولي له موجب إذا قال أشفقتهم ... تسل قلت بناري يوم فقدهم.

مراد المتكلم من قوله (تسل) أمر بالسلو، فعاكسه بحمله على أنه من الإسلاء بالنار، غير أن الإسلاء بالنار مهموز؛ يقال: سلأ السمن إذا طبخه؛ والسلو واوي؛ لكن مثل هذا يغتفر.

وبيت بديعية الشيخ عبد القادر الطبري قوله:

قالوا سلو الهوى قولا بموجبه ... يبري فقلت عظامي يوم بينهم.

مراد التكلم بقوله (يبري) من البرء وهو الشفاء من المرض؛ فعاكسه بحمله على البري؛ من برى السهم إذا نحته؛ هذا مراده؛ ولكنه غلط واضح فإن يبري من البرء بمعنى الشفاء مضموم الأول؛ لأنه مضارع أبرأه؛ يقال: برء المريض يبرأ، من باب نفع وتعب، وبرؤ؛ من باب قرب لغة هو في كل ذلك لازم؛ فإذا أريد تعديته قيل: وأبرأه الله ببرئه إبراء؛ بهمزة التعدية مثل أكرمه يكرمه، ولم يسمع براه الله إلا بمعنى خلقه، ويبري من برى السهم مفتوح الأول؛ لأنه متعد بنفسه، يقال: برى السهم والقلم بريا، من باب رمى، فلا يصح فيه القول بالموجب ما لا يخفى. (على أنه) عصب سقف بيت العز الموصلي في مصراعه الأول.

وبيت بديعيتي هو:

قالوا وقد زخرفوا قولا بموجبه ... فهمت قلت هيام الصب ذي اللمم.

زخرف كلامه: حسنه بترقيش الكذب، والهيام بضم أوله: كالجنون من العشق، واللمم: الجنون؛ والشاهد في قوله (فهمت قلت هيام الصب ذي اللمم) فإن المتكلم أراد به الفهم، فعاكسه المخاطب بحمل قوله (فهمت) بالتورية على أن الفاء ليست من سنخ الكلمة، بل عاطفة على مقدر و (همت) على أنه فعل ماض من الهيام، ولا خفاء فيما ذلك من الدقة واللطافة.

وبيت بديعية الشيخ إسماعيل المقري:

قالوا الأحبة شكوا في هواك نعم ... شكوا بلا شك أحشائي بلحظهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015