ثم ذكر ما حل بهذه الكنيسة بعد الهجرة وكيف هدمها أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء بني عباس بإغراء أحد أبناء الوهب بن المنبه وبعض يهود صنعاء.

وقد ذكر أبو صالح الأرمني في تاريخه (ص 140 من طبعة اوكسفرد) كنيسة أخرى في بلاد اليمن دعاها "مرور الدير" قال أنه كان عليها حصن منيع وتسمى في زمانه بمقبرة الحكماء.

ومما رواه السياح المحدثون أن جامع صنعاء الباقي إلى اليوم كان في سابق الزمان مكنيسة حولها المسلمون إلى جامع. وكذلك روى الرحالة الألماني الشهير غلازر (Claser: Srizze, I: 15, 37) أنه دخل سنة 1886 مسجداً يدعى مسجد نجيم يريم قريباً من ظفار حاضرة اليمن سابقاً فوجد في أبنيته وعمده وجدرانه آثاراً نصرانية ونقوشاً تدل على أنه كان سابقاً كنيسة مسيحية.

وقد اشترهت في تاريخ النصرانية مدينة نجران التي استشهد أهلها في عهد ذي نواس (راجع ص 59 61) فلما عاد إليها السلام ورجعت النصرانية إلى رونقها بني فيها كنيسة كبيرة عرفها العرب بكعبة نجران فورد ذكرتها في شعر الأعشى حيث أنشد يخاطب ناقته:

فكعبةُ نجرانَ حتمٌ عليكِ ... حتَّى تناخي بأبوابها

نزور يزيد وعبد المسيح ... وقيساً همو خيرُ أربابها

فمدح الأعشى هنا بني عبد المدان الحارثين سادة نجران النصارى. قال أبو الفرج الأصفهاني (الأغاني 10: 142) : "والكعبة التي عناها الأعشى هاهنا يقال أنها بيعة بناها بنو عبد المدان على بناء الكعبة وعظموها مضاهاة للكعبة وسموها كعبة نجران وكان إذا نزل بها مستجير أجير أو خائف أمن أو طالب حاجة قضيت أو مسترفد أعطي ما يريده".

وإن عدلنا بالنظر عن اليمن إلى العراق وجدنا هندسة البناء الدينية رائجة فيه أي رواج لنمو النصرانية بين أهله واتساع نطاقها في كل أنحائه. فهناك شاعت الطرائق الرهبانية شيوعها في أرض الصعيد. هناك توفرت المناسك والأديرة التي بلغ عدد المترهبين في بعضها المئات بل بضعة الوف. وقد عددنا في ما سبق أسماء كثيرة من هذه الأديرة التي عتي بتشييدها الملوك وأعيان الدولة كدير اللج الذي بناه النعمان بن أبو قابوس. قال ياقوت: "ولم يكن في ديارات الحيرة أحسن بناء منه".

ودير الأعور المنسوب إلى النعمان الذي تنصر وزهد بالدنيا. ودير الجرعة المنسوب إلى عبد المسيح بن بقيلة الغساني. ودير هند والكبرى بنته أم عمرو بن هند "أمة المسيح وأم عبده وبنت عبيده" (ياقوت 2: 709) ودير هند الصغرى. ودير حنظلة. وغيرها كثير (راجع القسم الأول ص 82 86) . ولا شك أن بناة هذه الأديرة لم يذخروا وسعاً في حسن بنائها وإتقان هندستها إذ كانوا من أصحاب الثروة والتقى معاً. وفي بعض بقاياها إلى اليوم ما يدل على عظم شأنها. وهكذا يقال عن الكنائس فأنها كانت غالباً هياكل واسعة الأرجاء شاهقة البنيان ذات أسواق متعددة جامعة بين متانة البنيان وحسن الشكل وقد بقي في الشعر القديم عدة أقوال لفحول الشعراء وصفوا فيها كنائس النصارى وهياكلها ومحاريبها وصلبانها وما تزان به من النقوش (راجع الصفحة 201 210) وقد خص الهمداني بالذكر في كتابه جزيرة العرب "كنيسة الباعونة في الحيرة". وبعض هذه الكنائس في العراق باقية إلى اليوم فأخذ الأثريون يدرسون هندستها ويبينون خواصها منهم تلك الآنسة الشهيرة الأنكليزية المس بل (Miss رضي الله عنهell) التي وضعت كتاباً ضخماً في وصف كنائس ما بين النهرين التي سبق عهد البعض منها عهد الإسلام فترتقي إلى القرن الرابع والخامس والسادس للمسيح وأثبتت صور كثير منها.

وأن اقتربنا في جزيرة العرب إلى بادية الشام ومملكة بني غسان وجدنا فيها من المباني الدينية ما يقضى منه العجب. وقد أثبتنا في الصفحات السابقة (راجع الصفحة 30) ما رواه مؤرخو العرب عن ملوك غسان الأولين وما بنوه من الأديرة كدير أيوب ودير حالي ودير هند ودير ضخم ودير النبعة ودير بصرى ودير سعد. ومن هذه الأديرة ما بقي عامراً بعد الإسلام وإلى اليوم يطلق اسم الدير على بعض جهات الصفا وحوران كدير الكهف ودير قن.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015