بالبلاغة إلى الحد الذي لم يستطع عنده أحد من البشر أن يحاكيه, أو يمني نفسه بذلك؟

وكان الحق من ذلك كله آخر هذه الأقوال، وهو ما ارتضاه عامة العلماء، واعتنقه جمهور المسلمين، ومنذ اعتناقهم له أخذوا يبحثون عن معنى الفصاحة والبلاغة والفرق بينهما، وعن سر هذه المزايا والخصائص التي ظهرت في نظم القرآن وتأليفه، وكيف كانت له هذه الجزالة التي أخرست الألسن، وأعجزت أساطين البيان، فنشأت عن ذلك مباحث الفصاحة والبلاغة، وأخذوا يدونون فيها.

ولم يكن دون فيها إذ ذاك كتاب مستقل يضع ضوابطها، ويضبط عامة أصولها وقواعدها, بل كان كل ما عرف من ذلك رسائل وجيزة أثرت عن بعض العلماء ردا على سائل، أو إفادة لمستفهم على نحو ما كان من أبي عبيدة على ما سيأتي، وعلى نحو ما كان من المبرد حين قصد إليه الفيلسوف أبو يعقوب يوسف الكندي إلى آخر ما جاء في هذه المسألة1.

ثم أخذت مسائل هذه العلوم طريقها إلى النمو والظهور على ألسنة الرواة والمتأدبين في غير نظام ولا إحكام، شأن كل جديد ناشئ، حتى جاء أبو عبيدة المتوفى سنة 206هـ فوضع كتابه "مجاز القرآن" على إثر سؤال وجه إليه في مجلس الفضل بن الربيع وزير المأمون عن معنى قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} وكيف يشبه الطلع برءوس الشياطين وهي لم تعرف بعد؟ أي: وينبغي أن يكون التشبيه بشيء قد عرف حتى يتبين الشبه ويتضح. فأجاب أبو عبيدة: إنما كلمهم الله على قدر كلامهم، وهو على حد قول امرئ القيس:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015