ثم خرج فنزل بعمان بقوم يكثرون ذكر أبي بلال، ويبكون عليه، ويذكرون مقتله فأظهر أمره عندهم، فبلغ الحجاج مكانه، فطلبه، فهرب، فنزل فيروذستان "طسوجاً من طساسيج السواد، إلى جانب الكوفة" فلم يزل به حتى مات، وفي ذلك يقول:

نزلت بحمد الله في خير أسرة ... أسر بما فيهم من الخير والخفر

نزلت بقوم يجمع الله شملهم ... وليس لهم عود سوى المجد يعتصر

من الأزد، إن الأزد أكرم أسرة ... يمانية تربو إذا انتسب البشر

فأصبحت فيهم آمناً، لا كمعشر ... أتوني فقالوا: من ربيعة أو مضر؟!

أو الحي قحطان، فتلكم سفاهة ... كما قال لي روح وصاحبه زفر

وما فيهم إلا يسر بنسبة ... تقربني منه، وإن كان ذا نفر

فنحن بنو الإسلام والله واحد ... وأولي عباد الله بالله من شكر

هذا الذي أشار إليه أبو الفتيان بن حيوس.

قلت - وقد نزلت بصور في دار ابن أبي عقيل، وكتبتها على بعض الرخام -:

دار سكنت بها كرهاً وما سكنت ... نفسي إلى سكن فيها ولا شجن

والقبر أرفق لي منها وأجمل بي ... إن صدني الدهر عن عود إلى وطني

فصل آخر في ذكر الأوطان

قال البحتري:

إذا نلت في أرض معاشاً وإن نأت ... فلا تكثرن فيها نزاعاً إلى الوطن

فما هي إلا بلدة مثل بلدة=وخيرهما ما كان عوناً على الزمن وقال أيضاً:

كم مشرق لي قد نقلت نواله ... فجعلته لي عدة للمغرب

وأحب أوطان البلاد إلى الفتى ... أرض ينال بها كريم المكسب

وقال آخر:

لا يصرفنك عن عزم تهم به ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان

تلقى بكل بلاد أنت ساكنها ... أرضاً بأرض وإخوانا بإخوان

وقال آخر:

قلقل ركابك في الفلا ... ودع الغواني في القصور

فمحالفو أوطانهم ... كشبيه سكان القبور

لولا التغرب ما ارتقى=در البحور إلى النحور وقال آخر:

لأرحلن المطايا رحلة عجباً ... يكون أدنى مداها الصين أو عدن

فكل خل إذا صافيته سكن ... وكل أرض إذا أحمدتها وطن

وقال الشريف المرتضى رحمه الله:

وملوح الخدين تحمله ... أبداً على أعناقها السبل

ناب عن الأوطان فهو متى ... ظفرت به الأوطان يرتحل

ترك البلاد لمن أقام بها ... وتقطعت عن عيسه العقل

يسعى إلى العلياء يحرزها ... سعياً تحامى وقعة الزلل

وإذا الفتى كتب النجاء له ... فالكلم يعفو والأذى جلل

وقال الشيخ أبو العلاء [أحمد بن عبد الله] بن سليمان المعري:

يا لهف نفسي على أني رجعت إلى ... أرض الشآم ولم أهلك ببغداذا

إذا رأيت أموراً لا توافقني ... قلت: الإياب إلى الأوطان أدى ذا

وقال جدي الأمير سديد الملك ذو المناقب أبو الحسن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ رحمه الله:

ولست بمحيار العزيمة إن جرت ... عليه رياح الخطب وهي زعازع

يكر إلى الأوطان طرفاً موزعاً ... يلين لها طوراً وطوراً يمانع

إذا ساف من تلقائها الريح لم يزل ... له نفس في إثرها متتابع

أبى ذاك نفس لا يداني عقالها ... ثواء، ولا تقضي عليها المطامع

وقال أيضاً:

لله ما طيف ألم بفتية ... تحنو رؤوسهم على الأكوار

يطوى بهم عرض الفلاة مسربل ... حلل الثناء ممزق الأطمار

لا تلفت الأوطان عزمته ولا ... يهدي الحنين إلى رسوم الدار

وقال آخر:

وقارعتني صروف الدهر فانكشف ... طخياؤها عن كريم الأصل والغصن

عن ابن ليل كنجم الليل همته ... مشيع القلب لا يلوي على وطن

وأي حر إلى الأوطان ملتفت ... إذا ألح عليه الدهر بالمحن

أينفع الظامئ الملهوف موقفه ... وقد فنى الماء بين الحوض والعطن؟!

مسدد العزم إن نابته نائبة ... فما يقيم على ربع ولا سكن

وقال آخر:

قوض خيامك عن أرض تهان بها ... وجانب الذل إن الذل يجتنب

وارحل إذا كانت الأوطان نابية ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب

وقلت - وأنا بمصر -:

يا مصر ما درت في وهمي ولا خلدي ... ولا أجالتك خلواتي بأفكاري

ما أنت أول أرض مس تربتها ... جلدي ولا فيك أوطاني وأوطاري

طور بواسطة نورين ميديا © 2015