فصل

وفي الحديث ما يدلُّ على الحضِّ على التَّشبه بالغريب؛ لأن الغريب إذا دخل بلدة لم يناقش أهلها في مجالسهم، ولم يجزع أن يروه على خلاف عادته في الملبوس، ولا يكون مدثرًا معهم، وكذلك عابر السبيل لا يتخذ دارًا، ولا يلج في الخصومات مع الناس، ولا يشاححهم، ناظرًا إلى لُبثهِ معهم أيامًا يسيرة، فكل أحوال الغريب وعابر السبيل في الدنيا مستحبة أن تكون للمؤمن؛ لأن الدنيا ليست وطنًا؛ لأنها تحبسه عن داره، وهي الحائلة بينه وبين قراره.

فصل

فالحديث أصلٌ في الفراغ عن هذه الدَّار، والزهد فيها، والرغبة عنها، والاحتقار لها، والقناعة فيها بالبُلْغة خوف فوات المقصود.

وما أحسن قول المصنف -رحمه الله- في آخر الكتاب: "معناه: لا تركن إليها، ولا تتخذها وطنًا، ولا تُحَدِّث نفسك بطول البقاء فيها، ولا بالاعتناء بها، ولا تتعلق منها بما لا يتعلق به الغريب في غير وطنه، ولا تشتغل فيها بما لا يشتغل به الغريب الذي يريد (?) الذهاب إلى أهله" (?)؛ فالعبدُ خُلِقَ للعبادةِ، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56] فإن وُفِّقَ لها كان مِن أهل الجِنان، وإن خُذِلَ-والعياذ بالله- كان من أهل الشيطان، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7]، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] ففي الحقيقة العبد مُرسَل، أرسله سيده إلى بلد غريب؛ فشأنه البدار إلى ما أرسله والحذار؛ ليعود إلى الوطن الحقيقي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015