وعلى هذا لا يجوز لأحد يبني على ما روي عن أبي حنيفة جواز ترجمة القرآن إلى لغة من اللغات على أن يكون المترجَم قرآنًا، ومهما يكن، فإنَّ الرأي الذي ينسب إلى أبي حنيفة قد رجع عنه، وهو خارج عن رأي الفقهاء أجمعين، فلم يسوغ أحد قراءة معاني الفاتحة بالفارسية أو غيرها، بل أجازوا الدعاء لمن لا يعرف العربية ولم يجد من يأتم به ليغنيه عن القراءة.

وتكرَّر القول بأنه رجع عنه، وقلنا: أنه الذي يتفق مع السياق التاريخي؛ إذ إن أبا حنيفة عاش سبعين سنة ابتدأت سنة 80 وانتهت سنة 150، والمعقول أنه رأى الألسنة الفارسية لم تقوَّم، فسوَّغ لهم من قبيل الرخصة الدينية فقط أن يقرءوا المعاني لسورة الفاتحة على أنها دعاء تقوّم ألسنتهم، فلمَّا رأى الألسنة قوِّمت ولانت واستقامت، وخشي البدعة؛ إذ يجد المبتدعة السبيل لبدعتهم، فرجع عن رأيه، ولا يصحّ الاعتماد على رأي رجع عنه صاحبه.

261- ولو تركنا فتوى أبي حنيفة، وقد علمنا من الفتوى أنَّه لم يعتبر ترجمة القرآن قرآنًا لها قدسيّة القرآن يجب أن نتَّجِه إلى موضوع الترجمة في ذاته، ولكي نقرر الحق فيه يجب أن نجيب عن هذه الأسئلة الثلاثة:

السؤال الأول: أيمكن ترجمة القرآن؟

السؤال الثاني: أتسوغ الترجمة على أنَّ الترجمة قرآن أو لست بقرآن؟

السؤال الثالث: ما السبيل لتعريف غير المسلمين بالقرآن، وإطلاعهم على معانيه؟

وإنَّا نجيب عن هذه الأسئلة جملة: إنَّ ترجمة القرآن غير ممكنة، وقد تصدَّى لذلك العلماء الأقدمون، فقرَّر ابن قتيبة وغيره من العلماء أن كل كلام بليغ لا يمكن ترجمته ببلاغته من لغة إلى أخرى؛ ذلك أنَّ الكلام البليغ له معنيان مجتمعان، أحدهما أصلي، وهو المقصد الذي انبنى عليه الكلام، وما سبق له من قصة أو حكم أو عظة.

والثاني بلاغي، وهو إشارات الكلام ومجازاته، وما يثيره من صور بيانية، وما يحيط به من أطياف، كالتي تحيط بالصور الحسية، وبهذا كله تعلو الرُّتَب البلاغية، ويسمو البيان.

وبتطبيق هذه القاعدة على القرآن الكريم وهو في درجة من البلاغة لا ينهد إليها أي كلام إنساني قط، فإن ترجمته مستحيلة على أن يكون قرآنًا فيه كل خواصه البلاغية.

ولذلك قال العلماء الأقدمون بالإجماع: إنه لا يمكن ترجمة القرآن بمعانيه الأصلية، والمعاني البيانية اللاحقة لها، فما فيه من أوامر ونواهٍ وأخبار وقصص يمكن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015