المساكين (صفحة 6)

وأين كل ما صبته الشمس والكواكب من نيرانها، وما أخرجته فصول الأرض من وشيها وألوانها، وما هتفت به الطير من أغاريدها وألحانها، وما تلاطمت به الدنيا من أمواج إنسانها؟ وأين ما صح وفسد، وما صدق أو كذب، وما ضر أو نفع، وما علا أو نزل؟ في كل لحظة تمتلئ الدنيا لتفرغ، ثم تفرغ لتمتلئ وماضيها ومستقبلها مطرقتان يمر بينهما كل موجود لتحطيمه.

وكأن الحياة ليست أكثر من تجربة الحياة زمنا يقصر أو يطول، وما العجيب أن لا تفلح التجربة في أحد، ولكن العجيب أن لا تنقطع وهي لا تفلح.

والعالم كالبحر من السراب يموج به أديم الأرض بما رحبت ثم لا تملأ أمواجه ملعقة، والحقيقة في كل شيء لا تزال تفر من تحليل إلى تركيب ومن تركيب إلى تحليل، لأن شعور أهل الزمن بالزمن لا يحتمل المعنى الخالد.

ولعل سبب الموت أنك لا أجد إنساناً يعيش في حقيقته الإنسانية، فلا هذه الحقيقة يسرت له كاملة ولا هو خلق لها كاملا، وفي الإنسان كالطبيعة أرض وسماء، فترابه لا يغشاه مما فوقه غير الظل وقد خلق مقسوما فشقة منه في أرضه وشقة في سمائه، فإذا حضره الموت ضرب الضرب بين هاتين فأخذت السماءُ السماءَ وجذبت الأرضُ الأرض.

هناك البرق الإلهي ملء الكون يلتمع ويخطف، ولكنه من الإنسان كشعلة تتوهج في غرفة أرضها وسقفها وحيطانها من المرايا وليس في هذه الغرفة إلا تتوهج في أرضها وسقفها وحيطانها من المرايا وليس في هذه الغرفة إلا هذا الضوء ورجل أعمى.

فلا سخرية ولا ضلالة ولا عبث ولا خداع إلا في أسلوبنا الإنساني المبني على حواسنا الزائغة، كما تنود السفينة خفت على موج البحر وما عبث البحر بها ولكن يعبث بها وزنها.

يريد الله أن نخلق لأنفسنا معنى من السمع والبصر ليس في أذن ولا عين، وأن نزيد في مجموعة أعصابنا الواهنة عصبا عقليا يراه ويسمعه ويدركه ويؤمن به، فالإيمان قوة جبارة لا تجمع إلا من رد كل أطراف النفس المنتشرة إلى عقدتها الروحية، وحبسها أكثر حواسها في حس واحد عنيف مؤلم، ووضع المناعم المضنون بها في ذلك المعنى المفتوح المتهدم الذي لا يمسك شيئا وهو االزهد، وحصر الآلام الطاحنة في ذلك المعنى المطبق المتحجر الذي لا يفلت شيئا وهو البصر، ورد الأخلاق كلها إلى ذلك العنصر الذي يضيف معنى الحديد إلى معنى اللحم والدم وهو الإرادة، وبعد ذلك كله وضع كل شيء إنساني قي ضوء من أضواء الكلمة المتألهة المسماة بالفضيلة.

يا إلهي! ما أقواك وما أضعفنا! كأنك تقذفنا من السماء فنجهد من بعد أن نرتفع إليها بأنفسنا على أجنحة الأعمال التي تطير بجاذبية مما تحب! لما خلقت الإنسان عبدا على قدرك صار إلها على قدره، فيجب في الحق أن تعذبه السماء إذا وغل عليها طفيليا بلا عمل ولا ثمن! النخلة السحوق نواة مخزونة في بلحة، والعالم العظيم تركيب مخبوء في إنسان، فالإنسان لنكده الطبيعي محيط بنواميس قاهرة تحركه، وتحيط به نواميس أخرى قاهرة تتحرك معه، فمن ثم لا يبرح يصطدم، ولن يكون متجها أبدا إلا إلى التحطيم، فإذا هو تورع وتحرج واستعلى أمات من شهواته فأبطل مثل ذلك فيما حوله، فكان خروجه من بعض الدنيا هو حقيقة وجوده في بعض الدنيا، ومثل هذا حقيق أن يقول: إني أحكم العالم من داخلي.

تباركت ربنا وتعاليت، إن الشك فيك لهو اليقين على طريقة، والإيمان بك هو اليقين على طريقة أخرى..المقعد لا يمشي، والأعرج لا يعدو، والضعيف لا يسبق العداء، فإذا أنكر المقعد على من يراه يمشي، والأعرج على من يبصره يعدو، والضعيف على من يعرفه قد يمشي، والأعرج على من يبصره يعدو، والضعيف على من يعرفه قد سبق، فما ذلك من إنكار العين ولا من مكابرة النفس، وإنما ذاك رأي منظور فيه إلى حظ رجل مهملة أو قدم مكسورة أو عظم واهن، ومن ثم لن يكون في الناس ملحد إلا وفي طباعه أو أخلاقه أو حوادث دنياه جهة مريضة ينكسر عندها الرأي ويبتلي بها الحس، فهي توجهه وتصرفه منظورا فيه إلى شعور بعينه. وقد ينتحر الرجل من إعراض امرأة فمنذا يقول إن النفس الإنسانية في وزن قبلة!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015