المساكين (صفحة 59)

لو أراد الله بالناس خيراً لوضع في أبصارهم أشعة تنبث في أطواء القلوب فتعرف ألوان العواطف وتميزها لوناً من لون، ولكنه جعل الوجه غطاءً على معاني القلب ثم سلط الفكر على معاني الوجه ومعارفه يصور فيها ما شاء مما له أصل في الحس وما لا أصل حتى ليختبأ الإنسان عن الإنسان وهو مكشوف لعينيه وإذا كان الله سبحانه قد أوجد الخير والشر صريحين فقد أوجد الإنسان ثالثاً لهما وهو تلبيس أحدهما بالأخر وأراد الخالق ذلك ويسره للإنسان فجعل فيه آلة واحدة للصدق وهي القلب وآلتين للكذب وجهه ولسانه.

كان "الشيخ علي" يشبه إنسانية قائمة بغير إنسانها على حين ترى أكثر الناس كأنه إنسان قائم بغير إنسانيته وكانت الدنيا كأنما نسيت أنه فيها فتركت له روحه صافية منطلقة تتطعم الحياة فير مستقرة في شيء كما يتطعم النسيم رائحته من ورق الزهر فهو يتسحب عليه ولا يستقر فيه ولو أنه ورق الزهر.

وما زالت روح هذا الرجل مني منذ عرفته كأنها نضاحة عطر تمج رشاشها على حياتي روحاً وعبيراً وندى، وكأن الرجل طفل عزيز من أطفال قلبي يملأ ما حوله ابتسامة وطفولة ورقة، ولو أن أحداً خلق من عيني الطفل الضاحكتين لكان هو "الشيخ علي" رحمه الله، على أنه كان رجلاً من سوسه القوة، معصوباً متكدساً، يملأ جلده كأنه جذل من أجذال الشجر.

وانقبضت نفسي انقباضة شديدة إذ تغير الرجل في حياته، ونظر إلي نظرة ينقدح منها شرر الغيظ، فلو أبصرت عيناك طائراً ضعيفاً أراغه نسر فاستطرده في نواحي الجو وهكذا وهكذا، ثم أهو له بمخالبه ثم سدد إليه نظرة غرزت هذه المخالب وانفجرت بآلام لحمه ودمه فاعلم أن تلك هي نظرة "الشيخ علي" إلي.

ولقد تبعثرت لها شياطين نفسي فانطلقت، يحول كل شيطان منه مهرباً، وكانت توسوس في صدري أن استمد من روح "الشيخ" قوله في الحب الذي مهما اعتبرته لم تجده إلي كإحياء الخيالات بقتل حقائقها، ثم ما لبث أن استضحك وأطلق لي نفسي وجاشت عيناه بنظراتهما الحكيمة، فقلت: ويحك يا نفس! إن عين "الشيخ علي" ترى من الجمال غير ما نرى، ثم تعلم علمها مما نظرت فيه، ثم تقدره على حساب ما تعلم منه، فما يدريك لعل هذا الرجل الروحاني لا يرى إلا ما وراء تلك البشرة الجميلة التي تكسو وجوه النساء الجميلات، كما نبصر نحن من وجوه الموتى وقد تآكل جلدها وتناثر لحمها وبرزت عظماً كسائر العظم من كل حيوان، فلا موضع قبلة ولا سحر نظرة ولا إشراق بسمة، وما هو إلا تركيب من العظم صنع هذه الصنعة تيسيراً لما خلق الله، ولعله يا نفس لو حشر الله لعينيك أجمل الجميلات في صعيد واحد وحشر معهن إناث البهائم صنفا، ثم نزع من تلك الوجوه كلها ذلك طراز من الجلد وما وراءه من اللحم مزعة حتى لا يبقى إلا الوضع في بناء العظام وهندستها، فما يدريك لعل لأجمل الجمال عندنا هنا لا يكون حينئذ إلا أقبح القبح هناك! أفمن جلدة على وجه امرأة يجيء الشعر والجنون معاً ويجتمعان في هذا الخيال الذي يسمى الحب ويستنزلان معاني التقديس من أعلى السموات إلى عين تلحظ لحظة، وشفة تبسم بسمة؟.

إنه القلم الإلهي المبدع الحكيم هو الذي صور ولون وأفتن ما شاء، فإن رزقت امرأة جلدة جميلة مشرقة كأنما تجري فيها الشمس: وألبست أخرى جلدة قبيحة سفعاء تجول فيها رهبة الظلمة، فكلتاهما صورة من صنع الله، وكلتاهما جاءت لمعنى، وكلتاهما بعد غشاء زائل على وضع ثابت لا يختلف في هذه ولا في تلك، وضع الحقيقة الجسمية التي تحمل الحياة بأدواتها الكثيرة. والحياة لا تعرف البشرة إلا غطاء على ما وراءها اسود أو ابيض، وكان من لون المرمر أو من هيئة الطين.

ولو أن كل وجه في نساء الدنيا خلق دميماً نافراً على أبشع ما نتصوره من القبح لكان كل الدنيا جميلات إذ يألف الطبع الإنساني تلك الصورة الواحدة ويتقرر بها الذوق في الجمال وتستمر بها العادة فلا يستبين وجه من وجه آخر في صفة ولا يخالف مذهب مذهباً في حالة. ولكن هذا الإنسان كتب عليه الشقاء، فخلق وخلق معه ما يطغيه وما يستفزه وما يخرجه عن طوقه، كما خلق له ما يزهده وما تطمئن به وما يحصره في إنسانيته، فالجميلات والقبيحات كلهن سواء في أنهن نساء هذه الإنسانية لا تقصر في ذلك واحدة عن واحدة وإنما يتفاوتن في أسباب الشقاء الإنساني الذي يبتلي الرجل بالمرأة ويمتحن المرأة بالرجل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015