المساكين (صفحة 51)

أما حسن الحظ فما أحسب الناس يعرفون ما هو، ولا أراه إلا رغبة مجنونة لا يقرها إلا العقل السليم ولا يستقيم بها نظام الدنيا، وإنما عرف الناس في كل وجه من وجوه الحياة كيف تكون الخيبة، وكيف يمرض الأمل، وكيف يهلك الطمع، وسموا ذلك "سوء الحظ" فحسبوا أن لهذه الأحوال ضداً، وجعل كل واحد يتمنى لنفسه هذا الضد ويصفه ويسميه "حسن الحظ" لأنه زعم لا سوء فيه، كالذي يسمع بالموت فيحسب أنه يعرف ما هو الموت؟ والحقيقة أنه لا يعرف منه شيئاً وإنما عرف الحياة الهالكة! يأبى كل أحمق إلا أن يختط صلى الله عليه وسلم خطة يبني له عليها مستقبله، فكأنما يريد أن تمشي يد الله في التقدير على أجزاء الصورة التي في خياله ... ! ولو جمع الله أبنية الأماني من أوهام الناس ومثلها وكشف عنها الغطاء فأبصرناها لرأينا ثم (مدينة المستقبل) التي لا يملك أفخم قصورها إلا الصعاليك ...

أما أنا فلا أرى كلمة (الحظ) فيما نأمله وفيما نتعلل به إلا لحنا من الألحان الطبيعية التي خلقت في أفواهنا لنتغنى بها تحت الأحمال الثقيلة من مصائب الدنيا وأطماع النفس، كي تجم الطباع وتنشط للسير بأحمالها، فما الإنسان إلا دابة للحمل، وعليه أن يحمل من معاني المادة التي يعيش فيها أو يعيش بها، والزمن نفسه بحكمته وعلومه وحوادثه إنما يعلمنا كيف نحتمل الأسواء والهموم أكثر مما يعلمن كيف نتقيها.

قال "الشيخ علي: ولكن يا بني ما هذا الذي يرتفع بالخامل، ويتقدم بالعاجز، ويجعل النكرة معرفة والنكرة معرفة، ويضرب وجه الحق عن مستحاقه، ويفلج الضعيف وما يسمو به أمل، ويحرم المجد وما يشك في الظفر، ويخالف في سبيل الأقدار بين نصيب ونصيب، ويقطع في محاولة الأمور بين الأسباب والغايات ويبعد المنفعة مما به تمامه فإذا هي مضرة ومفسدة ... ؟ لعلك تقول، إن كل هذا يجتمع في كلمتين هما السعد والنحس، وهما تنطويان في لفظة واحدة هي الحظ، ألا فاعلم أن هذا من وضع القدر، وهي مذاهب لغوية تمر بين أنفسنا وبين أفهامنا، وقد جئتني بجمل تنطوي في كلمتين، وكلمتين تجتمعان في لفظة، وأنا آتيك بجمل في كلمات في صوت واحد، فما هي صرخة الألم مثلاً؟ أليست قطعة طويلة ن كلام النفس يجمعها الحس الثائر المتألم وينتفض فيها فلا تكون إلا صوتاً واحداً! وانظر أين هذا الصوت مما يشرحه لك الطبيب من أسباب ذلك الألم وعوارضه في كلام طويل وعبارة سابغة لا يتألم منها حرف، مع أن أحدهما إنما يفسر الآخر كما ترى! وأنا فلا بد أن أعلمك من أين خرجت هذه الأسماء، لقد خرجت من تاريخ النوع الإنساني كله، فإن هذا الحيوان العاقل كان يشعر بمعاني الأشياء قبل أن يضع ألفاظها، وكان السخط والغيظ والحسد والمنافسة ونحوها من غرائزه الطبيعية: إذ هي المعاني التي بثها الخالق في نفسه لتنشئ في الأرض تاريخ هذه النفس، فكان إذ تعادى رجلان أو فئتان فبغى بعضهما على بعض، أحس الغالب منهما أن قوى الطبيعة معه، وأيقن المغلوب أن قوى الطبيعة عليه، لأن الإنسان لم يكن عرف نفسه بعد، وكان هو وحده يمثل في هذه الطبيعة المخيفة الرائعة فكرة الخوف العاقلة! فهذه الثقة في القوى الطبيعية المجهولة من الإنسان، وهذا الشك فيها والخوف منها، هما الأصل في تاريخ لفظتي: السعد والنحس.

ولقد كانت الأمم القديمة كلها تتوسل إلى الغيب المجهول بوسائل غريبة من الطلاسم والتمائم والتعاويذ ونحوها من الأعمال والعادات المأثورة في تاريخ كل أمة، لأن ذلك المعنى بعينه قد ارتقى مع العقل واشتد مع الإنسان فخرج من مخافة الطبيعة إلى الرغبة في إخافتها، حتى تنزل على حكم الإنسان في اجتلاب الخير ودفع الشر، والزمن لا يأتي على الغرائز فيمحوها، ولكنه يحول منها شيئا ويهذب منها شيئا، ومن هنا كانت كلمة الحظ فاشية في المتمدنين لأنها أخر صورة مهذبة من تلك الغريزة الأولى! أما إن في حوادث القدر أشياء لا نفهم وجه الحكمة فيها، وهي الحظوظ والأقسام، فذلك صحيح في نفسه بمقدار ما هو خطأ في أنفسنا، والشذوذ فيما يقع من حوادث الدنيا وفيما نشهد من تصاريف القدر أمر معلوم، ولكن لماذا لا يكون قاعدة لأشياء نجهلها ما دمنا نجهل الغيب كله ولا نعرف منه شيئاً؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015