على أن هذه الصناعات وإن آذن بعضها باتضاع في منزلته وهبوط في مادته فليس منها ما يؤذن بضَعَة في الخُلق. ولا ثَلمة في العقل، ولا ذلة في الحياة وإن كان شريفاتُ العرب وربات الحسب منهم يتعالين عن الارتزاق بالصناعة فلم يتجاوزن بذلك حد الإدلال بالعز، والمباهات بالغنى. فأما شرف النفس ونقاء

العرض وصدق القول، وفرط الإباء، فهن فيها على سواء، وبين يدينا حديث عن امرأة تبيع الخرز بالبادية. وتلك المرأة وإن تأخر بها الزمن إلى أول العهد الإسلامي فإن في عراقة بداوتها ما يلحقها بالجاهليات. وقَلَّ من نساء الأعراب من غيَّرها الإسلام في طبع أو عادة أو خُلُق.

أما الحديث فقد رواه رُسْتَم العَبْديّ قال:

خرجت من مكة زائراً لقبر النبي صلى الله عليه وسلم إذا جَويَرية تسوق بعيراً وتترنم بصوت حلو بهذا الشعر:

فيا أيها البيت الذي حِيلَ دونه ... بنا أنت من بيت وأهلُك من أهل

بنا أنت من بيت دخولك لذة ... وظلك لو يُسْطاع بالبارد السهل

ثلاثة أبيات فبيت أُحبه ... وبيتان ليسا من هواي ولا شكلي

فقلت لمن هذا الشعر يا جُويرية؟ فقالت: أما ترى تلك الكَوَّة التي عليها الحمراءُ قلت: أراها. قالت: من هناك نجم الشعر. فقلت: أفحَيٌّ قائله؟ قالت هيهات! لو أن لميت أن يرجع لطول غيبة كان ذلك!. فأعجبني فصاحة لسانها، ورقة ألفاظها. فقلت ألك أبوان؟ فقالت: فقدت أكبرهما وأكثرهما وأجلَّهما، ولي أم. قلت: فأين أمك قالت: منك بمرأى ومسمع. وإذا امرأة تبيع الخرز على ظهر الريق بالجُحْفة. ثم قالت: ياأم، شأْنك، فاستمعي من عمي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015