فخرجت من سَّر مَن رأى إلى بغداد واحتجزت عن لقاء الناس حتى ماتت.

وبعد، فإلى هذا الحد من الشواعر والمغنيات يقف القلم، وما نحاول أن نستوعب الموضوع أو نحيط، به لنه أوسع من أن يحاط به، وإذا استصفينا من ذلك شيئاً

فحسبنا أن نقول إن أولئك الجواري أتين في الشعر والغناء ببدع جديدة؛ فالرقة النادرة، والخفة الساحرة، والأنوثة الظاهرة، وكل ما من شأنه أن يسترق عقول السامعين ويستخف ألبابهم كل ذلك كان أوضح ما عرف به جواري هذا العصر، وإذا علمت أن للمغنية من وسائل توطين النفوس وترويض الأرواح والاحتكام بالخواطر والمشاعر، والإمعان في الأعماق والسرائر ما لا يتاح للرجل شيء منه سهل عليك، أن تعرف قدر ما وصل النساء بهذا الفن من بعد الغاية وعلو المكان، وإذا قيل إن هناك أئمة الغناء من الرجال أمثال إبراهيم الموصلي وولده إسحاق وإبراهيم بن المهدي وأشباههم قلنا إن هؤلاء لم يكن يصطفيهم إلا الآحاد المعدودون من خلفاء الدولة وصدورها، فكان غناؤهم خبراً من الأخبار أما أولئك النساء فقد كن في منال العيون والأسماع فغلب ذكرهن على الألسنة وشاع حكمهن على النفوس، وفوق ذلك كن الحسن والإحسان في ملك وسلطان، حتى قال فيلسوف العرب وإمام مفكريهم أبو نصر الفاربي إن هذا الفن لا يسمع من لحية وشارب ولقد صور الشاعر البحتري هذا الأسلوب الذي أمتاز به المغنيات بقوله:

وأشارت على الغناء بألحا ... ظ مراض من التصابي صحاح

فطربن لهن قبل المثاني ... وسكرنا منهن قبل الراح

طور بواسطة نورين ميديا © 2015